عندما إتخذ مسرح الشانزليزيه في فرنسا، قراراً بتقديم مغنية صاحبة بشرة سوداء، تهافت الناس لحضورها، فشاهدوا فنانة مرتدية تنورة من القش، وهي جوزفين بيكر، التي كانت تبلغ حينها 19 عاماً، وأصبحت بعدها “فينوس السوداء”.
إعتبر الناس في ذلك الوقت رقصة جوزفين “شيطانية”، وهي رقصة الشارلستون، التي كانت مشهورة في نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية، وغير معروفة في باريس، وظهرت بعدها جوزفين بتنورة مصنوعة من الموز، وأصبحت المغنية الرئيسية في مسرح فولي برجير.
لم تكن جوزفين بيكر مجرد فنانة إستعراضية، إذ تم إعتبارها مقاومة في وجه ديكتاتوريات القرن العشرين.
مولدها وإنطلاقتها في الفن
ولدت جوزفين بيكر عام 1906، في سانت لويس في ولاية ميسوري الأميركية، ونشأت في أسرة فقيرة، وعانت من التمييز العنصري منذ أن كانت طفلة، فلم تتمكن من دراسة الغناء أو العزف.
هربت جوزفين إلى فرنسا، قبل بلوغها الـ 20 عاماً، علها تحقق حلمها في الغناء والرقص، وبعدما أصبحت من أشهر فنانات الإستعراض في ثلاثينيات القرن الماضي، تعلمت خمس لغات، لتفتح أمامها آفاقاً أكبر.
من فنانة إلى جاسوسة
خلال الحرب العالمية الثانية، أصبحت جوزفين جاسوسة في أوروبا، لصالح فرنسا والحلفاء ضد النازية، وذلك بطلب من الجنرال شارل ديغول، وكانت جوزفين تقول إنها في رحلة إلى إسبانيا، عندما كانت توقفها الحواجز خلال تنقلها بين نقاط التفتيش الدولية في إسبانيا والمغرب، إلا أن الحقيقة كانت أنها تعمل جاسوسة لصالح المقاومة الفرنسية، وتخبئ أسراراً مهمة في ملابسها الداخلية.
إستغلت جوزفين صداقاتها مع مشاهير العالم، من خلال جمع معلومات عن القوات الألمانية وتحركاتها، وكانت الفنانة تنقل تلك المعلومات بالسر على الأوراق، التي كانت تطبع نوتات موسيقى رقصاتها عليها.
عام 1925، أدت جوزفين عرضاً في برلين، لكتيبة العاصفة ذات “القمصان البنية”، التي إنتمى إليها الزعيم النازي أدولف هتلر، وحينها كانت الكتيبة مجرد مجموعة هامشية، ولاقت جوزفين تفاعلاً كبيراً.
عندما عادت جوزفين إلى ألمانيا مجدداً، كان هتلر حقق شهرة بكتابه “كفاحي”، الذي وصف فيه أصحاب البشرة السمراء بأنهم “أنصاف قرود”، فجاءت ردة الفعل تجاه جوزفين مختلفة جداً، إذ إستنكرت الصحف الألمانية والنمساوية وجود الفنانة صاحبة البشرة السمراء في ألمانيا، ووصفتها بـ”الشيطانة السوداء”.
عام 1938 أعلنت جوزفين أن النازيين مجرمون يجب معاقبتهم، وقالت إنها قد تقتلهم بيديها في حال إضطرت إلى ذلك، وبعدها تواصل معها المكتب الثاني لهيئة الأركان العامة الفرنسية، وعرض عليها منصب “مراسل شرفي”، وهو منصب تطوعي، يشمل إستعادة معلومات إستخباراتية للمكتب، وحين بدأت الحرب العالمية الثانية، رفضت جوزفين تقاضي أي أموال مقابل عملها مع المكتب، حتى أنها كانت أحياناً تبيع مجوهراتها للمساعدة في تمويل رحلاتها.
علمت جوزفين أن اليابان وقعت على ميثاق مناهض للشيوعية مع هتلر، وكانت هذه المعلومة الأولى التي نقلتها إلى المكتب، وبعدها علمت أن ألمانيا تمهد لإحتلال البرتغال المحايدة، وذلك بهدف استخدام موانئها.
منزل جوزفين بيكر يتحول إلى مخزن ذخيرة
عام 1940، تحول منزل جوزفين في إقليم دوردوني إلى قاعدة للعمليات، وذلك بعدما وصلت الحرب إلى فرنسا، فكان يجتمع في منزلها أعضاء المقاومة الفرنسيين، كما جعلت جوزفين من منزلها مأوى للاجئين، فقد أوت فيه زوجين يهوديين بلجيكيين.
إمتلأ قبو منزل جوزفين بالأسلحة من أجل المقاومة، وتم نصب جهاز الإرسال اللاسلكي على البرج للتواصل مع بريطانيا، وعندما قصد الألمان جوزفين للتحقيق معها، بعد تلقيهم إتهاماً ضدها، قالت لهم جوزفين إنها فنانة وليس أكثر.
تكريمها ورحيلها
عملت جوزفين خلال الحرب مع القوات الأميركية، والفاشيين، وقادة الأمازيغ، ووجهاء العرب، ومشايخ الريف من منطقة شمال شرق المغرب، إلى جانب قوات فرنسا الحرة.
عادت جوزفين إلى ألمانيا بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا، وتم تكريمها ضمن إحتفال إنتصار الحلفاء، الذي أقيم في قلعة هوهنتسولرن، وهي المنزل التاريخي للعائلة الملكية الألمانية.
توفيت جوزفين بيكر عام 1975، بعد تعرضها لنزيف في الدماغ، وفي عام 2021، قررت الحكومة الفرنسية تكريمها، عبر ضمها إلى مقبرة العظماء في باريس، فأصبحت جوزفين بيكر أول إمرأة صاحبة بشرة سوداء تحصل على هذا التكريم.