سبع سنوات مرت على رحيل الشاعر الكبير سعيد عقل، المبدع الذي أغنى الأدب والشعر بقصائد خالدة.

رأى في وطنه عظمة تستحق أن يحيا من أجلها، وأن يقاتل لينصرها وقال :”إن لبنان أصبح بفضل كتاباتي وما نشرته في ضمائر اللبنانيين، وطناً يصعب قتله”.
غنت له فيروز أجمل وأروع الأغنيات، منها “غنيت مكة”،”يارا” ذات الجدايل الشقر التي يتمرجح فيها العمر، “أمي يا ملاكي”، “دقيت طل الورد عالشباك”، “قصيدة لبنان” وغيرها من الأغنيات. عُرف بكرمه، فخصّص من ماله الخاصّ جائزة أسبوعية للمبدعين أدبياً وفنياً.

ولد سعيد عقل في 4 تمّوز/يوليو 1912 في مدينة زحلة في البقاع، تلقى دروسه في الكلية الشرقية “الفرير”، والدته أديل يزبك من بكفيا، تركت في نفسه أثراً كبيراً، كان يصفها بأنها شقراء، جميلة ومثقفة، وبأن لها فضلاً كبيراً عليه.

بدأ كتابة الشعر في سن مبكّرة. من أعماله مسرحية “بنت يفتاح” وهي مأساة شعرية، و”المجدلية”. ومن كتبه “لبنان إن حكى”، من دواوينه “قدموس”، “رندلى”، “كما الأعمدة”، “قصائد من دفاترها”، وله كتب مدوّنة بالحرف اللبناني الذي اقتبسه من الأبجدية اللاتينية، فعُرف عقل بالأبجدية الجديدة التي أطلقها كلغة لبنانية، في عدة دواوين له، منها “قدموس” و”يارا”.

هنري العويط

يقول الكاتب والشاعر الفرنسي أناتول فرانس Anatole France :”إن الناقد يستطيع، وهو يطوف رياض روائع الفن، أن يسهّل على الناس إرتيادها، بحيث يمكنهم أن يستمتعوا بجمالها الأخّاذ، ويمكن للنقد سواء أكان من النوع الهدّام، أو من النوع الذي يكون رائده المنطق والعدل، أن يكون لذاته أدباً يُقرأ وفناً يُستجلى جماله”.
قول الشاعر الفرنسي ينطبق على ما كتبه الدكتور هنري العويط حول ديوانَي الشاعر سعيد عقل “نحتٌ في الضوء” و “شَرَر”. فمقالته تشوّق القارئ لمطالعة الديوانَين، وتمهّد له السبيل لفهمهما وتذوّقهما. وكما أن للشاعر إزميله، يصقل به الأبيات والألفاظ والقوافي بدقّة فائقة، كذلك للناقد إزميله الذي به يفسّر ويحلّل، محاولاً تطبيق شروط علم الجمال ومقاييسه.

التعمق في اللاهوت المسيحي ودراسة تاريخ الإسلام

قرأ روائع التُّراث العالميّ شعراً ونثراً، فلسفةً وعلماً وفناً ولاهوتاً، فغدا في طليعة المثقَّفين في هذا الشرق. تعمّق في اللاهوت المسيحي، حتى أصبحَ فيه مرجعاً. أخذ من المسيحيّة من جملة ما أخذ، المحبّة والفرح. درس تاريخ الإسلام وفِقْهَهُ، ليتعمق أكثر في الديانة الأخرى.

التوجه الفكري
كان سعيد عقل عروبياً، فانضم إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، ونظم العديد من القصائد التي تتغنى بالشام، ما جعل وسائل الإعلام الرسمية السورية تشيد به. غير أنه عاد وبدل مواقفه بشكل كامل، حين تبنى رؤية أن لبنان هو امتداد لفينيقيا، ومستقل عن العرب والقومية العربية.

التجربة الأدبية
دشن عقل حياته الأدبية عام 1935 بمسرحية “بنت يفتاح”، وأصدَرَ عام 1937 ملحمة “المجدلية”، ثم مسرحية “قدموس” عام 1944.

صَدَرَ له عام 1950 ديوان “رندلى”، الذي إعتبر من أهم الدواوين الشعرية في لبنان، حيث أعاد لشعر الغزل بريقه.

وفي عام 1954 أصدَر كتيباً نثرياً بعنوان “مشكلة النخبة”، كما له عام 1960 “لبنان إن حكى”، الذي يحكي قصة أمجاد لبنان.

عاد إلى الغزل مرة أخرى، فأصدَرَ عام 1960 “أجمل منك؟ لا”، ثم “يارا” سنة 1961. وطرح عام 1971 ديوان “أجراس الياسمين”، وفي سنة 1972 نشر كتاب “كتاب الورد”.

عام 1973 طرح “قصائد من دفترها”، وهي السنة نفسها التي نشر فيها ديوانه الغزلي “دلزي”.

عام 1974 طرح كتاب “كما الأعمدة”، ثم نشر ديوان “خماسيات” عام 1978.

طرح عام 1981 ديوان باللغة الفرنسية عنوانه “الذهب قصائد”.

ربطته علاقة فنية بالمطربة اللبنانية فيروز والأخوين رحباني، فغنّت له عدة قصائد بارزة، في مقدمتها “زهرة المدائن”.

كانت لسعيد عقل مسيرة أدبية ولاهوتية وتاريخية مع الشاعرة والأديبة والمؤرخة مي مر، بالتعاون مع زوجها المهندس والأديب ألفرد مر، دامت هذه المسيرة لأكثر من 25 عاماً. عقل أشار إلى أن “قانا الجليل” التي صنع فيها المسيح أعجوبته الأولى، تقع في جنوب لبنان، بين مدينتي صيدا وصور، وليست “كفر كنا” بالقرب من القدس، فقامت حينها مر بأبحاث تاريخية عن “قانا الجليل”، وإستعانت بمراجع تاريخية موثوقة، من مؤرخين ألمان، والقديس جيروم، ومن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وأثبتت مر بذلك أن “قانا الجليل” التي صنع فيها المسيح أعجوبته الأولى، هي في جنوب لبنان وليست “كفر كنا”، ونُشرت هذه الأبحاث التي قامت بها مر، في جريدة “لسان الحال” عام 1966، وبعدها قام عقل ومر بأبحاث تاريخية أخرى.
بالنسبة للشعر والأدب، أعجب سعيد عقل بمي مر كشاعرة وأديبة مبدعة في كتاباتها باللغتين العربية والفرنسية، ووصفها بـ”شاعرة كبيرة حتى الذروة”، وهي بدورها أعجبت باللغة اللبنانية التي إعتمدها عقل، فطبعت ديوان شعر “بحبك”، وغيره من الكتب بهذه اللغة.
أسس عقل ومر معاً جريدة “لبنان”، التي إنطلقت باللغة العربية، وبعدها أصبحت تصدّرَ باللغة اللبنانية، وكان قائماً عليها أيضاً المهندس والأديب ألفرد مر. مبدأ هذه الجريدة، كان أن لبنان هو وطن سيد، حرّ ومستقل، ورفض كل أنواع الإحتلالات والجيوش الغربية، والتدخل في قراره الحر.
كانت مي مر، تقيم جلسات أدبية في منزلها الزوجي، بالتعاون مع زوجها المهندس والأديب ألفرد مر، كان يشارك فيها سعيد عقل، والعديد من الشعراء والمثقفين، منهم الأديبة إنعام مكي، المحامي محمد المغربي، الشاعر جورج شكور، الأديبة نور سلمان، الشاعر رفيق روحانا، الدكتور ميشال كعدي، الشاعر موريس عواد، الشاعرة بلقيس أبو الخدود، الشاعرة باسمة بطولي، وغيرهم الكثير من الأسماء الكبيرة في مجال الأدب والشعر والفكر.

بعمر السبعين عاماً تزوج سعيد عقل، في شهر نيسان عام 1982 من الشاعرة آمال جنبلاط، التي كانت في العقد الثالث من عمرها، وبعد أقل من شهرين، إنتحرت آمال بإطلاقها رصاصة على نفسها.
في رصيد آمال ديوان “أغنية ليلية” باللغة الفرنسية.

قضى سعيد عقل سنواته الأخيرة منهكاً، وهو في رعاية السيدة ماري روز أميدي، التي رافقته حتى لحظة الوداع.

شهادات بعد وفاته

الشاعر جورج شكور، الذي رافق سعيد عقل لأكثر من نصف قرن في مسيرته الأدبية والعشرية، قال :”سعيد عقل أمة في رجل، إنه يمثّل عظمة لبنان. صاحب 5 آلاف سنة من الحضارة، عرفته منذ 58 سنة، حين قال لي الأخطل الصغير، طيب الله مثواه: “تعرف إليه فالمستقبل كله له”. كان عزمه قوياً في الحياة، ومثواه سيتولاه من بعده، كما قال هو نفسه. هو مدرسة فكرية عظيمة – وتلامذته يملأون كل العالم. هو أمير القوافي، ومحك في هذا العصر، يحاك على شعره كل شعر. له أبيات هي دستور حياة، أذكر منها:

وما هَمَّ أن مُتنا ولم نَبلغ المنُى

كفى أن مشَينا لا التواءَ ولا هَدْنُ

غدا في خُطانا يَجبهُ الصَّعبَ نَفْسَهُ

بَنُونَ هُمُ الأسياف مِقبَضُها نَحْنُ

كان متفائلاً، يمثل الفرح، فيما كان الآخرون وهم الكثر من الشعراء، يمثلون الحزن. لقد كان مرحاً في حياته كلها. كان محباً للعلم، أعطى مكتبته لجامعة سيدة اللويزة، وطلب أن أكون مسؤولا عن تنقيح دواوينه، وقد فعلت وأعطيت لمكتبة أنطوان، وصَدَرَت، وسأعمل على تنفيذ وصيته، وتنقيح ما تبقى. لقد قال للجامعة: “لا أحد يمس كتبي غير جورج”.

المؤلف الموسيقي والمنتج أسامة الرحباني: 4 صنعوا مجد لبنان أحدهم سعيد عقل
“مات المعلم. سعيد عقل شاعر لبنان والعرب. لربما يعطي الله الموهبة والشعر لكثير من الناس، لكنه أعطى العبقرية في الصوت الذي يهدر وفي الشكل الذي يبدو فيه كالهرم. إنتماؤه للبنان كبير جداً، تأثر به عاصي ومنصور الرحباني، وغنّيا له مع العظيمة فيروز، ثم عاد وتأثر بهما وبموسيقاهما. بقي التأثر والتأثير قائماً، حتى صار مستشارهما لأنهما كانا عبقريين، وعملية الإبداع والشعر والموسيقى والكلمة تعنيهما. لقد كان أقرب الناس إلى الأخوين رحباني. ظني أن لبنان رسم مجده 4: جبران خليل جبران، وسعيد عقل والأخوان رحباني، بصوت فيروز. هؤلاء هم من أسسوا لتاريخ لبنان الفكري والفني، ونواة لبناء المستقبل”.

شاركها.
Exit mobile version