تواجه الشعوب الأوروبية، وبنسب متفاوتة، أزمة غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، فيما يتعلق بارتفاع تكلفة “المعيشة”، وهي الأزمة التي من المرجح تَواصل تداعياتها على نحو واسع رغم مرحلة انحسار نمو الأسعار وتباطؤ معدلات التضخم نسبياً، ذلك في ظل انخفاض مستويات الأجور الحقيقية.
يكشف تحليل أعدته صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية أخيراً، استند إلى الأرقام والتوقعات الصادرة عن Consensus Economics (شركة عالمية لاستطلاعات الاقتصاد الكلي)، عن أنه:
- حتى بحلول أواخر العام المقبل، لن تكون المداخيل الحقيقية قد استعادت المستويات التي وصلت إليها قبل الارتفاع في نمو الأسعار.
- التحليل أشار إلى أنه بين عامي 2020 و2022 انخفضت الدخول الحقيقية بنسبة 6.5 بالمئة في منطقة اليورو.
- جاء ذلك مدعوماً بالزيادات الحادة في تكاليف الطاقة والغذاء.
- تشير التقديرات إلى أنه بحلول نهاية العام المقبل 2024 ستكون النسبة أقل بـ 6 بالمئة من مستويات العام 2020، وفقاً للتحليل.
بينما يشير محللون إلى أن “مرحلة انحسار نمو الأسعار ستترك عبئاً دائماً على الموارد المالية للأسر”.
ونقلت الصحيفة البريطانية عن رئيسة الاستثمار في Interactive Investor (خدمة استثمارية عبر الإنترنت) فيكتوريا سكولار، قولها: “على الرغم من أن معدلات التضخم تبدو في طريقها للتراجع، فإن الأسعار لا تنخفض (..) يمكن أن يستمر الضغط على ميزانيات الأسر وضغوط تكلفة المعيشة باعتبار ذلك رياح معاكسة ملحوظة”.
- تباطأت أسعار المستهلك (التي تستبعد أسعار الغذاء والطاقة) لتسجل ارتفاعاً بنسبة 5.6 بالمئة في أبريل، مقارنة بـ 5.7 بالمئة في مارس، وذلك للمرة الأولى منذ عشرة أشهر.
- ارتفع التضخم العام بنسبة 7 بالمئة، ليزيد بشكل طفيف عن معدلات شهر مارس التي سجلت 6.9 بالمئة.
وتباطأ التضخم بشكل حاد من قراءات في خانة العشرات في أواخر العام الماضي، لكنه لا يزال مرتفعاً بشكل كبير عن مستهدف المركزي الأوروبي البالغ 2 بالمئة.
ومن شأن هذا التباطؤ النسبي “الضغط على صانعي السياسة في البنك المركزي الأوروبي، الذين استمروا في رفع أسعار الفائدة بقوة خلال العام الماضيين من أجل مكافحة ضغوط الأسعار، وبالتالي من المتوقع أن يقوموا بإبطاء وتيرة التشديد النقدي في الاجتماع المقبل”، وفق تحليل الصحيفة البريطانية.
وسبق للبنك أن رفع الفوائد بإجمالي 3,5 بالمئة منذ يوليو من العام الماضي لضبط ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة التي زادت بشكل ملحوظ بعد انطلاق شرارة الأزمة الأوكرانية مطلع 2022.
انخفاض الأجور وزيادة تكلفة المعيشة
من جانبه، يقول الأستاذ المتفرغ بقسم الاقتصاد في جامعة أوتاوا، ماريو سيكاريتشيا، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: كما هو الحال في معظم دول العالم، فمنذ العام 2021 شهدت أوروبا انخفاضاً كبيراً للغاية في الأجور الحقيقية، أي الأجور بعد زيادات تكلفة المعيشة (كما يُقاس بارتفاع أسعار المستهلك).
ويضيف: “ارتفعت الأسعار في أوروبا بسرعة أكبر من ارتفاعها في أميركا الشمالية، ذلك على الرغم من معدلات البطالة المرتفعة هناك (..) في الولايات المتحدة وكندا شهدنا نمواً أكثر قوة نسبياً وانخفاضاً في معدلات البطالة، على الرغم من محاولات البنوك المركزية رفع أسعار الفائدة لإبطاء وتيرة التضخم”.
ويشير تحليل الصحيفة البريطانية إلى أن “الأشخاص الأكثر فقراً، الذين ينفقون جزءاً أكبر من دخلهم على الضروريات، هم الأكثر تعرضاً لارتفاع الأسعار، وسيستمرون في الشعور بضغوط أكبر، مع استمرار ارتفاع تكاليف الغذاء حتى مع انخفاض أسعار الطاقة”.
- ارتفعت تكاليف الغذاء في الاتحاد الأوروبي بنسبة 19.5 بالمئة على أساس سنوي حتى مارس الماضي.
- يشكل ذلك أعلى معدل منذ أن بدأ يوروستات في جمع مثل هذه البيانات في العام 1997.
- في بعض البلدان الأعضاء – بما في ذلك بولندا والبرتغال ودول البلطيق- ارتفعت التكاليف بشكل أكبر.
- ارتفعت أسعار بعض المواد الغذائية الأساسية مثل زيت الطهي والبيض بأكثر من 30 بالمئة داخل الكتلة حتى مارس.
وبحسب الأستاذ المتفرغ بقسم الاقتصاد في جامعة أوتاوا، فإن “هذا السياق من شأنه أن يخلق مزيداً من المشكلات بالنسبة لأوروبا؛ حيث أنه مع نمو الأجور الحقيقي بشكل بطيء فضلاً عن معدلات الاستثمار الهزيلة، فإن المصدر الوحيد لنمو القطاع الخاص الذي يمكن لأوروبا الاعتماد عليه هو صافي الصادرات”.
ويردف: “تاريخياً، تميل الدول الأوروبية إلى أن تكون دولاً موجهة إلى حد كبير للتصدير، ومع ذلك، فإن الاقتصاد العالمي لا ينمو بنفس القدر، والأهم من ذلك أن اليورو قد ارتفع العام الماضي مقابل الدولار الأميركي، وكل هذا من شأنه أن ينذر بأنه ستكون هناك المزيد من مشاكل البطالة والنمو المنخفض في الأفق لأوروبا خلال الفترة المقبلة”.
ووفق تقديرات Consensus Economics فإنه “من غير المتوقع أن يعود المعدل الرئيسي لنمو الأسعار في كل من منطقة اليورو والمملكة المتحدة إلى مستوى 2 بالمئة” الذي يستهدفه البنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا حتى العام المقبل.
وكان صندوق النقد الدولي قد أشار في توقعات سابقة الأسبوع الماضي إلى أن التضخم في المنطقة لن يقترب من الهدف حتى العام 2025.
الأجور والأسعار في بريطانيا
في بريطانيا، تقدر هيئة الرقابة المالية أن الفترة من ربيع 2022 إلى ربيع 2024 ستمثل أكبر انخفاض في الدخل الحقيقي المتاح للناس منذ أن بدأت السجلات في الخمسينيات من القرن الماضي.
يقول أستاذ الاقتصاد والتجارة في جامعة بورتسموث، الدكتور أحمد عبود، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: أوروبا بشكل عام، وبريطانيا بشكل خاص، مرت في الفترة الأخيرة بأزمات لها توابع اقتصادية كبيرة (بدءاً من جائحة كورونا ووصولاً إلى الحرب في أوكرانيا) ما أثر بشكل مباشر على الاقتصاد والمواطنين وأدرى لارتفاع أساسيات الحياة، خاصة مع ارتفاع أسعار الطاقة، ومن ثم كلفة حصول المواطنين على الغاز وكلفة التدفئة بالمنازل، فضلاً عن ارتفاع معدلات الفائدة وأثر ذلك على الرهن العقاري، وكذلك كلفة الإيجارات.
ومن المقرر أن ينخفض الحد الأقصى الرسمي لتكاليف الطاقة للأسر البريطانية إلى 2200 جنيه إسترليني بحلول نهاية العام 2023 من أكثر من 3280 جنيهًا إسترلينياً، وبما يعكس انخفاضاً في أسعار الغاز بالجملة الأوروبية من ذروتها في أغسطس. لكن هذا المستوى سيظل ضعف الرقم للعام 2020.
يشدد عبود على أن “ارتفاع معدلات التضخم أثر على دخول المواطنين في أوروبا، وأدى إلى زيادة المصروفات على الأساسيات وتكلفة الحياة من طعام وشراب وتدفئة وأساسيات أخرى، وهو ما يؤثر بدوره على قدرة المواطنين على الاتجاه للكماليات والترفيه، مثل الاتجاه لحجز إجازات مختلفة وغير ذلك (السفر)”.
ويضيف أستاذ الاقتصاد والتجارة في جامعة بورتسموث: “ولكن بسبب أن الدول الأوربية لديها اقتصاد قوي وإمكانيات اقتصادية قوية أدى ذلك بشكل كبير إلى استطاعت الدول المساهمة في مواجهة أزمة تكلفة المعيشة، على الأقل من ناحية مساعدة أصحاب الدخول المنخفضة في فترات ارتفاع الأسعار”.
ويختتم حديثه مع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، بقوله: “لا يمكن إنكار أن مستوى المعيشة داخل أوروبا وفي بريطانيا بشكل خاص انخفض، وهناك تأثير شبه واضح على مقدرة المواطنين الأوربيين على التوجه للسلع الترفيهية والكمالية في الفترة الأخيرة بشكل ملحوظ مقارنة بالفترات السابقة”.
- “الأسعار في بريطانيا ستظل مرتفعة، ويجب أن تستعيد الأجور قيمتها المفقودة بعد أطول ضغط للأجور منذ 200 عام”، وفق كونغرس النقابات العمالية في بريطانيا.
- المديرة التنفيذية لمؤسسة Food Foundation (منظمة غير ربحية مقرها المملكة المتحدة) آنا تايلور، أفادت بأت “”الزيادة المستمرة في أسعار المواد الغذائية شهراً تلو الآخر لها تأثير مدمر على قدرة الناس على إطعام أنفسهم وأسرهم.
حلول محلية
ويُشار إلى الحلول المحلية التي اعتمدتها عدد من الحكومات الأوروبية من أجل التخفيف من وطأة ضغط الأسعار، من بين تلك الحلول إبرام الحكومة الفرنسية صفقة مع عدد من المحال المتخصصة في السلع الأساسية لتقديم عروض أسعار مخفضة. بينما حددت كرواتيا سعر ثمانية سلع أساسية (من بينها الحليب والدجاج)، في وقت اتجهت فيه البرتغال وإسبانيا وبولندا إلى خفض الضرائب على المواد الغذائية.
لكن “هذا لم يمنع زيادة أعداد الناس الذين يلجأون إلى الجمعيات الخيرية للحصول على الدعم”، وهو ما أكدته عضو مجلس إدارة جمعية بنك الطعام بمنطقة هيس الألمانية، كاتيا بيرنهارد، والتي نقلها تقرير الفاينانشال تايمز، بقولها: ” إن تدفق المتقدمين في الأسابيع الأخيرة كان مرتفعاً للغاية لدرجة أن نصف مؤسساتنا البالغ عددها 58 مؤسسة اضطرت إلى التوقف عن قبول المزيد من الأشخاص”.