في الحروب والأزمات، عادة ما يخسر أطراف، ويهنأ آخرون بالمكاسب، وفي أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، وما تبعها من عقوبات غربية تجاه موسكو، كان اليوان الصيني أحد أهم الرابحين، حيث بات يحرز صعوداً عالمياً لافتاً.
وعلى مدار أكثر من عقد من الزمان، حرصت بكين على الحدّ من الاعتماد على الدولار الأميركي؛ مدفوعة بالرغبة في تعزيز نفوذها، وبالمخاطر الناشئة عن الاقتصاد الأميركي، مثل الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالعالم في 2008.
ومع زيادة حدّة التوتر بين الولايات المتحدة والصين أخيراً، على خلفية الأزمة التايوانية، سرّعت الصين من خطواتها نحو عزل اقتصادها عن النظام الاقتصادي العالمي بتدعيم العملة المحلية؛ تجنباً لفخ العقوبات الغربية، حال اندلاع حرب مع الجارة تايوان.
الحرب الأوكرانية
يقول تقرير لصحيفة “ذا جارديان” الإنجليزية “إنّ الحرب في أوكرانيا، ألحقت الضرر بالفعل بالاقتصاد الروسي، بعد قطع معاملات موسكو التجارية، المعتمدة على الدولار الأميركي، مما قوض حركة الاقتصاد الروسي وحدّ من قدرته على التواصل مع الدول الأخرى.
بموازاة ذلك كان ثمة رابح – عن غير قصد – من وراء حزمة العقوبات الغربية، يحلق بعيداً منتشاً بانتصارات غير متوقعة.
في العام الماضي، ارتفعت حصة الواردات الروسية المدفوعة باليوان من 4 بالمئة إلى 23 بالمئة في فبراير، ولأول مرة في تاريخ بورصة موسكو، تجاوز اليوان الدولار باعتباره العملة الأكثر تداولاً.
وفي حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” يقول ماتياس هافنر، الباحث بمركز “سويس إيكونوميكس” للأبحاث الاقتصادية بسويسرا إنّ من المحتمل ألّا يكون تدويل اليوان مرتبطاً بشكل مباشر بالحرب في أوكرانيا. ومع ذلك، أدّت العقوبات الغربية ضد روسيا إلى توثيق العلاقات الاقتصادية بين الصين وروسيا، مما زاد من استخدام اليوان في التجارة الثنائية بين البلدين.
يشار إلى أنّ بيانات الجمارك الصينية، الصادرة أخيراً، أظهرت أنّ الصادرات الصينية إلى روسيا قفزت بنسبة 153.1 بالمئة في أبريل لتبلغ 9.6 مليار دولار، مواصلة بذلك مسارها الصعودي السريع من مارس عندما نمت الصادرات 136.4 بالمئة بعد تسجيل نمو قدره 19.8 بالمئة في أول شهرين من العام.
وبحسب تقرير “ذا جارديان”، واستناداً لبيانات منصّة سويفت، شرعت الصين في تدعيم اليوان قبل نشوب الحرب الأكرانية، إذ تضاعفت حصة بكين في تمويل التجارة العالمية بين مارس 2021 ومارس 2023، لتصل إلى 4.5 بالمئة، وتصبح في منافسة حامية مع اليورو المقدرة حصته بـ 6 بالمئة.
ويضيف ماتياس أنّ “صعود اليوان يمكن أن يؤدي إلى الحدّ من هيمنة الدولار الأميركي على التجارة والتمويل الدوليين. ومع ذلك، لا يزال الدولار الأميركي هو العملة الأكثر استخداماً في العالم، ومن المتوقع أن يظل كذلك في المستقبل المنظور”.
وبحسب بيانات سويفت، لا يزال اليوان يمثل جزءاً صغيراً من حجم التجارة العالمية (4.5 بالمئة)، مقارنة بالدولار الذي تراجعت حصته إلى 84.3 بالمئة في فبراير 2023، بعدما كانت 86.8 بالمئة في العام السابق.
طوق نجاة
بعيداً من الحرب الروسية الأوكرانية، ارتبطت جهود تعزيز مكانة اليوان أيضاً بإجراءات اتخذتها الحكومة الصينية أخيراً، وأهمها تشجيع الدول على اعتماد اليوان في المعاملات الدولية، فضلاً عن عدد من الإجراءات الأخرى، مثل:
- توصل الأرجنتين والبرازيل أخيراً إلى اتفاقيات لدفع قيمة الواردات الصينية باليوان بدلاً من الدولار الأميركي.
- في مارس، استخدمت شركة صينية اليوان لشراء 65000 طن من الغاز الطبيعي المسال (LNG) من شركة توتال إنرجيز الفرنسية متعددة الجنسيات، وهي المرة الأولى التي يستخدم فيها عملة الصين في صفقة دولية للغاز الطبيعي المُسال.
- إعلان بنغلاديش في أبريل موافقتها على دفع مبلغ باليوان بقيمة 318 مليون دولار؛ لتسوية جزء من قرض روسي، اُستخدم لتمويل تطوير محطة للطاقة النووية.
- طوّرت الصين أيضاً بديلاً لـنظام سويفت، بالإضافة إلى عملة رقمية هي e-CNY.
من جانبه يرى ماتياس هافنر أنّ هدف الصين من وراء تعزيز اعتمادها على عملتها هو توسيع دوائر نفوذها العالمي، والحدّ من اعتمادها على الدولار الأميركي باعتباره العملة المهيمنة في التجارة والتمويل الدوليين.
ويتابع هافنر في حديثه مع موقع اقتصاد سكاي نيوز عربية: “تستهدف من وراء تقوية اليوان فرض مزيد من السيطرة على اقتصادها وشعبها، وهذا من شأنه تمكين بكين من التمتع بسلطة أكبر على شؤونها الاقتصادية والسياسية، والحدّ كذلك من تعرضها للصدمات الاقتصادية الخارجية”.
ويؤكد أنّ تدويل اليوان يمكن أن يساعد الصين في تجنب العقوبات الغربية عن طريق تقليل اعتمادها على الدولار الأميركي، وزيادة قدرتها على إجراء المعاملات التجارية والمالية باستخدام عملتها الخاصة.
ويعتقد ماتياس أنّ قدرة الصين على التهرب من العقوبات الغربية مرهونة بعاملين أساسين، هما:
- اعتماد الدول الأخرى اليوان كعملة احتياطية واستخدامه في المعاملات الدولية.
- عدم فرض الدول الغربية عقوبات على الصين لمحاولتها التهرب من العقوبات.
مخاوف التدويل ومستقبل اليوان
يعني تدويل اليوان تخفيف سيطرة الحكومة على تدفقات رأس المال والسماح للسوق بلعب دور أكبر في تقييم العملة، وهذه مخاطرة كبرى تخشاها بكين، سواء على الصعيد السياسي أو الفلسفي، حيث أنّ المبدأ المركزي لفلسفتها الاقتصادية هو أن الدولة يجب أن يكون لها دور بارز في الاقتصاد.
وهنا يشير الباحث الاقتصادي السويسري إلى أسباب التخوفات التي تنتاب الحكومة الصينية من تدويل اليوان، إذ قد يؤدي ذلك إلى: تخفيف سيطرة الحكومة الصينية على الاقتصاد من خلال زيادة المنافسة، وتقويض قدرتها على التلاعب بالعملة. ومع ذلك، فإن مدى هذه النتيجة يعتمد على الآلية التي ينفذ بها التدويل، ودرجة تدخل الحكومة.
وحول مستقبل اليوان يقول ماتياس هافنر: “إن مصير العملة الصينية يعتمد على عدة عوامل، هي:
- النمو الاقتصادي للصين.
- السياسات الحكومية.
- الاتجاهات الاقتصادية العالمية.
“ومع ذلك، من المتوقع أن يستمر تدويل اليوان، حيث تسعى الصين إلى زيادة نفوذها العالمي، وتقليل اعتمادها على الدولار الأميركي”.