خاص

الليرة التركية تواصل الهبوط

تشهد تركيا، كغيرها من دول العالم، تقلبات اقتصادية متسارعة، أبرزها التضخم الحاد الذي يلتهم جيوب المواطنين ويقلص قيمة العملة المحلية، مما يثير تساؤلات حول جدوى تكرار تجربة إلغاء الأصفار، التي سبق أن لجأت إليها تركيا في تسعينيات القرن الماضي لمواجهة أزمة اقتصادية مشابهة.

هذه الخطوة نجحت في ذلك الوقت باستعادة بعض الاستقرار النقدي، فهل يمكن اعتبار إلغاء الأصفار حلاً مجدياً للتحديات الحالية، أم أن هناك حلولاً بديلة أكثر فعالية؟

وتباطأ معدل التضخم السنوي في تركيا إلى 48.6 بالمئة خلال أكتوبر الماضي من 49.4 بالمئة مسجلة في سبتمبر الذي سبقه على أساس سنوي، وبحسب المعهد الإحصائي التركي، بلغ معدل التضخم في أسعار المستهلكين في أكتوبر الماضي 2.88 بالمئة على أساس شهري.

من جهته، رفع البنك المركزي التركي، أخيراً، توقعاته المرتبطة بالتضخم للعامين الحالي والمقبل، في وقت تواصل أسعار المواد الاستهلاكية ارتفاعها رغم رفع معدلات الفائدة، حيث رجح البنك أن تصل نسبة التضخم إلى 44 بالمئة في نهاية العام الجاري، مقارنة مع تقدير سابق في أغسطس بلغ 38 بالمئة، كما تتوقع ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية بنسبة 21 بالمئة بحلول أواخر العام 2025 مقارنة مع 14بالمئة في التوقعات الأخيرة.

وقال حاكم البنك المركزي فاتح كاراهان في تصريحات صحفية: “اتّجاه التضخم الكامن يتحسّن لكن بشكل أبطأ من المتوقع”. وقد سجل التضخم في شهر مايو الماضي 75.45 بالمئة بينما تجاوز 85 بالمئة في عام 2022 مدفوعاً بضعف الليرة التركية.

وكان البنك المركزي التركي رفع معدلات الفائدة العام الماضي لمواجهة ارتفاع الأسعار بعدما تخلى الرئيس رجب طيب أردوغان عن معارضته لتشديد السياسة النقدية، وأبقى البنك المركزي الخميس معدل الفائدة الرئيسي ثابتاً عند 50 بالمئة للشهر الثامن على التوالي. حيث كان معدل الفائدة قبل تغيير السياسة النقدية عند 8.5 بالمئة.

وكان سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة التركية في ارتفاع مستمر لعقود من الزمن، حيث ارتفع من مستوى الـ 1.1 في عام 2008 ليزيد عن مستوى الـ 30 ليرة تركية، وبعد إعلان البنك المركزي أمس ارتفعت الليرة التركية قليلا إلى 34.5250 مقابل الدولار.

وأصبحت أكبر فئات الأوراق النقدية غير كافية بشكل متزايد لتغطية حتى الإنفاق اليومي، حيث تمثل الفئة النقدية الأعلى قيمة، البالغة 200 ليرة (5.80 دولار)، الآن أكثر من 80 بالمئة من إجمالي النقد المتداول، ارتفاعاً من 16بالمئة في عام 2010، وفقاً لبيانات البنك المركزي.

دعوات لطباعة فئات نقدية أكبر

وبعد فقدان قوتها الشرائية تقريباً، باتت كل ورقة نقدية تكفي لشراء كوبين من القهوة في “مقهى خمس نجوم”. في عام 2010، وكانت الفئة النقدية الواحدة تعادل حوالي 140 دولاراً، ويمكن ملاحظة هذا التحول في البازار الكبير في إسطنبول، حيث تملأ عربات التسوق الثقيلة وحقائب السفر المؤقتة الأزقة خارج محلات الصرافة، في انتظار نقل الكميات المتزايدة من الأوراق النقدية اللازمة للتجارة، بحسب تقرير نشرته “بلومبرغ” واطلعت عليه سكاي نيوز عربية، والذي أوضح أن المسؤولون الأتراك يواجهون دعوات لبدء طباعة فئات نقدية أكبر.

وذكر التقرير نقلاً عن مسؤولين تنفيذيين في أحد البنوك أن “إصدار فئات نقدية ذات قيمة أعلى سيسهّل العمليات داخل النظام المصرفي”، لافتاً أنه حتى الآن، لم يلتزم المسؤولون بطباعة فئات نقدية أكبر. وقال محافظ البنك المركزي كاراهان للمشرعين في يونيو الماضي بأن “التحليلات مستمرة” بشأن هذه المسألة.

بالنسبة للأتراك، فإن هذا يذكرهم بتسعينيات القرن الماضي وأوائل الألفية الجديدة، عندما أجبر التضخم المزمن الحكومة على حذف ستة أصفار من العملة لإنشاء الليرة التركية الجديدة المستخدمة اليوم، وحتى مع زيادة استخدام بطاقات الدفع منذ إعادة تسمية العملة عام 2005، لا يزال الاقتصاد التركي يعتمد بشكل كبير على النقد، حيث وصفته شركة تحويل الأموال Wise Plc بأنه “ضروري” للدفعات الصغيرة والأسواق والإكراميات، بحسب تقرير الوكالة الأميركية.

مشكلات هيكلية في الاقتصاد

في حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أوضح طارق الرفاعي، الرئيس التنفيذي لمركز “كروم للدراسات الاستراتيجية” أن انخفاض قيمة الليرة التركية بدأ منذ عام 2016 عندما صارت قيمتها ليرتين مقابل الدولار. ومنذ ذلك الحين، تسارعت وتيرة الانخفاض الليرة، حيث أصبحت ثلاث وأربع وخمس ليرات مقابل الدولار، دون أن نشهد أي تغييرات جوهرية في بنية الاقتصاد التركي. وأضاف: “هذا التسارع استمر ليصل في عام 2021 إلى 20 ليرة للدولار خلال بضعة أشهر، ثم زادت وتيرة التدهور في عام 2023 إلى أكثر من 25 ليرة مقابل الدولار، واليوم تجاوزت 30 ليرة للدولار الواحد.

وأكد الرفاعي أن هذه الأزمة تعكس وجود مشكلات هيكلية في الاقتصاد التركي، معتبراً أن المشكلة تفاقمت بسبب اعتماد العديد من البنوك والشركات التركية في العام 2018 على الاقتراض من بنوك أوروبية بالدولار واليورو، لا سيما في مشروعات ضخمة مثل المطار الجديد.

وأشار إلى أن هذا الأمر يضع ضغطاً هائلاً على تلك المؤسسات، إذ تجد نفسها مضطرة لتحويل الليرة إلى العملات الأجنبية لسداد ديونها، مما يزيد من أعبائها المالية ويهدد بعضها بالإفلاس.

إلغاء الأصفار حل نفسي وليس جذرياً

وحول إمكانية اللجوء إلى حذف الأصفار من العملة، أشار الرفاعي إلى أن تركيا لم تصل بعد إلى هذه المرحلة، مشيراً إلى تجربة التسعينيات وأوائل الألفية عندما بلغت قيمة الليرة مليوناً و600 ألف مقابل الدولار، مما دفع آنذاك إلى حذف الأصفار. لكنه شدد على أن هذا الإجراء يظل حلاً نفسياً أكثر من كونه حلاً جذرياً، مؤكداً أن المشكلة الأساسية تكمن في بنية الاقتصاد والسياسات العامة للحكومة، وليس فقط في سياسات البنك المركزي.

واختتم الرفاعي تصريحاته قائلاً: “لإصلاح الوضع، تحتاج تركيا إلى سياسات اقتصادية واضحة تدعم الليرة، مثلما حدث في ماليزيا خلال الأزمة الآسيوية في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، حيث تدخلت الحكومة بفرض سعر صرف ثابت للرينغيت الماليزي مع وضع أهداف اقتصادية متماسكة. أما استمرار الاعتماد على الاقتراض بالعملات الأجنبية أو السياسات الاقتصادية الفاشلة فلن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة”.

إلغاء الأصفار عملية مجدية مع ارتفاع تكاليف طباعة النقود

من جانبه، قال الخبير الاقتصادي، الدكتور عماد الدين المصبح، أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية: “لا أعتقد أن الحكومة التركية بصدد إلغاء الاصفار، فالوقت لا يزال مبكراً لاتخاذ مثل هذه الخطوة، إذ يمكن اللجوء إلى ذلك عند وصول معدل التضخم إلى 100 بالمئة على الأقل لمدة خمسة أعوام، أو عند لجوء البنك المركزي إلى طباعة نقود جديدة، والحكومة لم تفعل ذلك بعد أي لا يتم تمويل العجز بطباعة المزيد من النقود”.

وأوضح الدكتور المصبح أنه في حال لجأت الحكومة إلى فكرة طباعة النقود مع تزايد ارتفاع التضخم وانخفاض سعر الصرف عن طريق طباعة النقود فبالتأكيد سنكون أمام أوراق نقدية جديدة كما حدث في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي عندما تمت طباعة ورقة الـ (10 مليون ليرة) وهنا ستكون عملية إلغاء الأصفار مفيدة ومجدية من أجل تخفيض تكاليف طباعة النقود اللجوء.

ومع ذلك يشير الخبير الاقتصادي المصبح إلى أن هذه الخطوة يجب أن يسبقها إجراءات تنظيمية في السياسة النقدية والسياسة الاقتصادية على وجه العموم حتى تكون مجدية.

شاركها.
Exit mobile version