تواجه الصين تحولات اقتصادية عميقة، حيث تسعى جاهدة لإنعاش اقتصادها المتباطئ من خلال حزمة تحفيزية واسعة النطاق. ومع ذلك، تكمن المفارقة في أن هذه الجهود الرامية إلى تعزيز النمو الاقتصادي قد تتحول إلى سلاح ذو حدين، حيث تشكل تهديداً مباشراً لأرباح البنوك الصينية الكبيرة.
ففي الوقت الذي تسعى فيه الحكومة الصينية إلى ضخ سيولة في الاقتصاد وتشجيع الإقراض، فإن البنوك تواجه ضغوطاً متزايدة على هوامش الربح، وذلك بسبب انخفاض أسعار الفائدة وتراجع الطلب على القروض.. فهل تتحول خطط التحفيز الاقتصادي إلى لعنة على البنوك، بل وهل يمكن أن يؤدي إلى انهيارها؟
وأعلنت الصين عن حزمة مدتها خمس سنوات تبلغ قيمتها الإجمالية 10 تريليون يوان (1.4 تريليون دولار) لمعالجة مشاكل ديون الحكومات المحلية، في أعقاب اجتماع للمشرعين الذين يتطلعون إلى احتمال تصاعد التوترات التجارية مع عودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب.
ووافق المشرعون في اللجنة الدائمة لمجلس النواب الصيني، على قانون يسمح برفع سقف استدانة الحكومات المحلية بمقدار 840 مليار دولار على مدار 3 سنوات، في حين سمحت السلطات الصينية للحكومات المحلية أيضاً بإصدار سندات خاصة بقيمة 559 مليار دولار على مدار 5 سنوات لنفس الغرض. وبهذا تصبح القيمة الإجمالية لبرنامج التحفيز المالي الجديد 1.4 تريليون دولار.
وتهدف الخطة إلى إصلاح الميزانيات العمومية للحكومة المحلية كهدف متوسط إلى طويل الأجل، بدلاً من ضخ الأموال مباشرة في الاقتصاد، حيث تواجه الحكومات المحلية في الصين عبء ديون متضخم يبلغ 5.6 تريليون دولار (40.1 تريليون يوان)، وفقاً لبكين.
خنق أرباح البنوك
ويقول محللون إن خطط التحفيز الصينية تخنق أرباح البنوك العملاقة، والمرجح أن تشهد انخفاضاً أكبر في هوامش الربح المنخفضة القياسية مع دخول حزمة التحفيز الأوسع نطاقاً في بكين حيز التنفيذ، بحسب تقرير نشرته شبكة “سي إن بي سي” الأميركية، واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
ونقلت الشبكة عن محللي شركة أبحاث “كريدي سايتس”، “إن هوامش الفائدة الصافية (NIM)، وهي مؤشر رئيسي لربحية البنوك، لدى (الأربعة الكبار) المقرضين في الصين – البنك الصناعي والتجاري الصيني (ICBC)، وبنك البناء الصيني، وبنك الصين، وبنك الزراعة الصيني – انخفضت بمعدل 20 نقطة أساس في الأشهر التسعة الأولى من عام 2024 مقارنة مع العام الماضي.
كان البنك الصناعي والتجاري الصيني، أكبر بنك مقرض في العالم من حيث الأصول، هو البنك الرئيسي الوحيد بين البنوك الأربع الكبرى الذي أبلغ عن استقرار صافي هامش الفائدة في الربع الثالث مقارنة مع الربع السابق، عند 1.43بالمئة. ومع ذلك، كان ذلك أقل بنحو 18 نقطة أساس عن بداية هذا العام.
بين منافسيه الأصغر، بلغت هوامش ربح بنك الصين وبنك البناء الصيني 1.41بالمئة و1.52بالمئة على التوالي، بانخفاض من 1.44بالمئة و1.54بالمئة في الربع السابق.
في ظل التباطؤ الاقتصادي، عانت البنوك الصينية التي تبلغ قيمتها 60.6 تريليون دولار من ضعف الربحية تحت وطأة انخفاض أسعار الرهن العقاري وضعف الطلب على الائتمان، ففي نهاية يونيو الماضي، انخفضت هوامش ربح البنوك التجارية الإجمالية إلى 1.54بالمئة، وهو أدنى مستوى قياسي، وفقاً للبيانات الرسمية الصادرة عن الإدارة التنظيمية المالية الوطنية. وهذا أقل بكثير من عتبة 1.8بالمئة التي يراها المنظمون ضرورية للحفاظ على الربحية المعقولة.
قروض أرخص وأسرع لتخفيف أزمة العقارات وديون الحكومات المحلية
ومنذ أواخر سبتمبر الماضي كثفت بكين تدابير التحفيز النقدي، وضغطت على البنوك الأكبر حجماً لتقديم قروض أرخص وأسرع للتخفيف من أزمة العقارات الطويلة والديون الحكومية المحلية المترامية الأطراف، فيما ينتظر المقرضون الرئيسيون حزمة إعادة تمويل من بكين للمساعدة في تجديد رأس المال وتعزيز قدرتهم على دعم التعافي في الاقتصاد، بحسب تقرير الشبكة الأميركية.
وهذه الحزمة التحفيزية، ليست الأولى التي أعلنتها بكين، ففي ظل تباطؤ ثاني أكبر اقتصاد في العالم وتزايد التحديات المحلية التي يواجهها ومنها الأزمة في قطاع العقارات التي يعاني منها منذ وقت طويل بالإضافة لضعف الاستهلاك المحلي، وتزايد ديون الحكومات المحلية، أطلقت الصين الكثير من الإجراءات التحفيزية خلال هذا العام سعياً إلى تحقيق هدف النمو السنوي بنسبة 5 بالمئة. والحفاظ على مكانتها كقوة اقتصادية عالمية.، حيث شمل التحفيز إجراءات مثل خفض حجم الاحتياطي الإلزامي للبنوك وسعر الفائدة الرئيسي، إلى جانب تقديم دعم إضافي لسوق العقارات المتعثر.
حول مؤقتة
في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أكد الرئيس التنفيذي لمركز “كروم للدراسات الاستراتيجية” طارق الرفاعي، أن الأزمة العقارية التي تعاني منها الصين حالياً هي الأعمق في تاريخها، مشدداً على أن التحفيزات الحكومية، وخاصة تلك الموجهة للقطاع المصرفي، قد توفر حلولاً مؤقتة، إلا أنها لا تكفي لمعالجة المشكلة الجذرية المتمثلة في ارتفاع حجم الديون المتعثرة.”
وأوضح أن القطاع العقاري، الذي يمثل أكبر قطاع في الاقتصاد الصيني، يعاني من أزمة قد تستمر لعقود مستشهداً بالفقاعة العقارية التي شهدتها اليابان في نهاية ثمانينيات من القرن الماضي والتي استغرقت بين 20 و30 عاماً ليعود القطاع العقاري للنمو، وحذر من أن البنوك هي الأكثر تضرراً من هذه الأزمة بسبب ارتباطها الوثيق بالقطاع العقاري.
التحفيز قد يسبب انهيار البنوك
وشدد الخبير الاقتصادي الرفاعي على أن “إصرار الحكومة الصينية على دفع البنوك إلى زيادة الإقراض، رغم ارتفاع حجم الديون المتعثرة، هو قرار خاطئ، حيث أن تراكم الديون سيؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي ويهدد استقرار النظام المصرفي”.
وأضاف: “الحكومة الصينية تريد للبنوك الاستمرار في الإقراض وهذه مشكلة كبيرة لأنه لديها الكثير من القروض المتعثرة، وعادة عندما تتراكم الديون المتعثرة فالبنوك تبطئ أو توقف الإقراض وهذا سلبي جداً للاقتصاد الصيني”.
واختتم الرفاعي حديثه بالتأكيد على أن التحفيزات الحالية ستؤخر التعافي الاقتصادي، وقد تتسبب في انهيار بعض البنوك.
من جانبه، قال الخبير الاقتصادي والمالي علي حمودي: “جيد ان أعلنت الصين عن حزمة مالية بقيمة (1.4 تريليون دولار) لإنقاذ الحكومات المحلية والمساعدة في دعم اقتصادها المتعثر، حيث تستعد لزيادة التوترات التجارية مع الولايات المتحدة مع عودة الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة، إذ طالما انتظر السوق هذه الخطة المالية وهي واحدة من أكبر الخطط التي تستهدف السلطات المحلية المتعثرة في البلاد، لكنها خيبت آمال المستثمرين لأن المتوقع المزيد من الدعم لضعف استهلاك الأسر، لذا هناك شعور بخيبة الأمل في الأسواق”.
إعادة تمويل البنوك
ويرى حمودي في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن الصين بحاجة إلى التعامل بشكل عاجل مع مشاكل أخرى تلاحق اقتصادها المحلي، بما في ذلك ركود قطاع الإسكان، قبل أن تؤثر زيادة الرسوم الجمركية بنسبة 60 بالمئة التي هدد بها ترامب خلال الانتخابات الأميركية على صادراتها. إذا تم تنفيذها بالكامل دون تدابير مضادة صينية، فقد تؤدي رسوم ترامب الجمركية إلى خفض الناتج المحلي الإجمالي للصين بعدة نقاط مئوية عندما يكون الاقتصاد ضعيفاً للغاية.
كما أن هناك قطاعاً مهماً آخر قد يتأثر سلباً وهو القطاع المصرفي الصيني، حيث من المرجح أن تشهد أكبر البنوك المملوكة للدولة في الصين انخفاضاً في هوامش الربح المنخفضة القياسية بشكل أكبر مع دخول حزمة التحفيز الأوسع نطاقاً في بكين حيز التنفيذ، حسب تعبيره.
وأضاف حمودي: “في ظل التباطؤ الاقتصادي، عانى القطاع المصرفي الصيني من ضعف الربحية تحت وطأة انخفاض أسعار الرهن العقاري وضعف الطلب على الائتمان، لذا فإن السلطات الصينية بحاجة إلى بذل المزيد من الجهود لتحفيز الدافع الائتماني الأولي، والذي لا يزال مفقوداً، إذ هناك ائتمان رخيص متاح، لكن الناس ليسوا مستعدين للاقتراض”، فإن أي انتعاش في الإقراض قد يكون تدريجياً في الأشهر الستة المقبلة”.
ويتوقع الخبير الاقتصادي والمالي حمودي إعادة تمويل البنوك في الصين، وقال: “يجب أن يحدث هذا حتى لا تتكبد البنوك الصينية أي خسائر كبيرة بسبب انخفاض هامش الفائدة الصافي، وإلا فلن تتمكن هذه البنوك من الاستفادة من أي حافز قد يأتي”.
#الصين
#البنوك الصينية