هل يعيد ترامب إحياء أوروبا العظيمة مرة أخرى؟
لطالما شكلت الولايات المتحدة الأميركية المظلة الأمنية والاقتصادية لحلفائها في أوروبا، لكن مع وصول دونالد ترامب مجدداً إلى الحكم، وجد الاتحاد الأوروبي نفسه أمام واقع جديد ونهج صدامي. بالنظر إلى ترامب، لا ضمانات ولا التزامات ولا تحالفات دائمة مع أوروبا دون مقابل.
لكن تودّد الرئيس الأميركي إلى روسيا، وتقويضه الثقة بحلف الناتو، إضافة إلى تهديده أوروبا بالرسوم الجمركية، كان له تأثيرٌ محفّز على القارة العجوز، التي بدأت دولها بالتحرك نحو اتخاذ خطوات جوهرية تساهم في جعل أوروبا عظيمة مرة أخرى من حيث القوة والازدهار، تماماً كما كانت خلال فترات تاريخية عديدة.
وبحسب تقرير أعدته “فايننشال تايمز” واطلع عليه موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، يتفق العديد من القادة الأوروبيين على أن أميركا في عهد ترامب تشكل تهديداً، مع أن قلة منهم يصرحون بذلك علناً لأسباب دبلوماسية.
فالقادة الأوروبيون يدركون، على نحوٍ مقلق، كيف جعلهم التحالف عبر الأطلسي، الذي دخل عقده الثامن، يعتمدون بشكل كبير على الدعم العسكري الأميركي. حيث إن المشكلة لا تقتصر على التمويل فحسب، بل تكمن أساساً في الاعتماد على التكنولوجيا والأسلحة الأميركية، وهو الأمر الأكثر خطورة في هذا الموضوع.
وحالياً، ينتهج القادة الأوروبيون سياسة ذات مسارين: فهم يعملون على تأجيل قطع الدعم العسكري الأميركي عن أوروبا عبر شراء الوقت لأطول فترة ممكنة، مع الاستعداد لتلك اللحظة بأسرع وقت من خلال تفعيل العمل على ثلاثة مجالات رئيسية هي: الدفاع الأوروبي المشترك، الدين الأوروبي المشترك، وأخيراً رأب الصدع بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.
الدفاع الأوروبي المشترك
بعد قرار إدارة ترامب بقطع تدفقات المعلومات الاستخباراتية والأسلحة عن أوكرانيا، أدرك الأوروبيون حجم المتاعب التي يواجهها الأوكرانيون. وكان هذا التصرف الأميركي وراء القرار الذي اتخذته المفوضية الأوروبية بالسماح بجمع 150 مليار يورو، لإنفاقها على صناعة الدفاع في الاتحاد الأوروبي. من المرجح أن يتركز الإنفاق الجديد على المجالات التي تعتمد فيها الدول الأوروبية بشكل خاص على أميركا، مثل الدفاع الجوي.
الدين الأوروبي المشترك
إن إصدار ديون أوروبية مشتركة ليس مجرد وسيلة لجمع الأموال للدفاع، بل إنه يوفر أيضاً فرصةً لتعزيز اليورو كبديل للدولار كعملة احتياطية عالمية، خصوصاً أن التقلبات التي تتسبب بها إدارة ترامب تعني وجود إقبال عالمي كبير على بديل لسندات الخزانة الأميركية كأصل آمن.
ولطالما تمسكت ألمانيا المُقتصدة برفضٍ صارم لفكرة الدين الأوروبي المشترك، ولكن هذا العرف قد تم كسره جزئياً خلال جائحة كوفيد-19، والآن من المرجح أن يُزال تماماً. ففريدريش ميرز، الذي سيكون مستشاراً لألمانيا، يسعى إلى إعفاء الإنفاق الوطني على الدفاع والبنية التحتية من القيود الدستورية المفروضة على الإنفاق بالعجز.
وبفضل سياساتها المالية الحذرة، تتمتع ألمانيا بقدرة أكبر على الاقتراض مقارنةً بفرنسا أو بريطانيا المثقلتين بالديون.
إصلاح العلاقة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي
الخدمة الأخيرة التي يُقدّمها ترامب لأوروبا هي تسريع التقارب بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة بعد خروج الأخيرة من الاتحاد الأوروبي.
فقد تعاون رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشكل وثيق في ملف أوكرانيا، والآن يمكنهما العمل مع المستشار الألماني الجديد فريدريش ميرز لتشكيل تحالف قوي بين الدول الثلاث.
إحدى آليات زيادة الإنفاق العسكري في القارة العجوز تتمثل في إنشاء صندوق دفاع أوروبي جديد، يمكن لبريطانيا المشاركة فيه. من شأن هذا أن يضيف ميزةً إضافية تتمثل في منح المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي شكلاً جديداً من التعاون يجنّب إعادة فتح صندوق باندورا الخاص بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
كما أن إصلاح العلاقة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي يُشكل لحظة فرصة لأوروبا، التي ستتمكن ومن خلال هذا التعاون من توفير بيئة أعمال أكثر استقراراً من “أميركا ترامب”، وهو ما قد ينعكس بالفعل على أداء سوق الأسهم في أوروبا مقارنة بسوق الأسهم في الولايات المتحدة.
تحوّل الرأي العام الأوروبي
وما يعزز التوجه الجديد للقادة الأوروبيين هو التحوّل العميق في مزاج الرأي العام الأوروبي، حيث أظهر استطلاع للرأي أُجري الأسبوع الماضي أن 78 في المئة من البريطانيين يعتبرون ترامب تهديداً للمملكة المتحدة، ويتفق معهم حوالي 74 في المئة من الألمان، و69 في المئة من الفرنسيين.
ورغم ذلك، لا تزال الوحدة الأوروبية تواجه العديد من التحديات، إذ بدأت الخلافات تظهر بالفعل بين فرنسا وألمانيا حول كيفية توزيع أموال صندوق الدفاع الجديد للاتحاد الأوروبي.
ولكن التاريخ يُثبت أن القادة الأوروبيين تمكنوا دائماً من تجاوز العقبات عندما أصبحت الحاجة إلى التوافق ضرورية، حيث جاءت أهم خطوات التكامل الأوروبي بعد صدمات جيوسياسية كبرى، بدءاً من نهاية الحرب العالمية الثانية ثم انهيار الاتحاد السوفيتي.
الشركات الأميركية والمخاوف من رسوم ترامب
هل تعيد سياسة ترامب أوروبا العظيمة؟
ويقول كبير محللي الأسواق المالية في FxPro، ميشال صليبي، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن منطقة اليورو تمتلك العديد من الأدوات التي تتيح لها التعامل مع التوجهات الجديدة لأميركا في ظل حكم ترامب.
ومن أبرز الخطوات التي رأيناها هي ما قامت به ألمانيا مؤخراً، حيث اتفقت الأحزاب الألمانية التي تسعى لتشكيل الحكومة على إنشاء صندوق خاص للبنية التحتية بقيمة 500 مليار يورو، بهدف دعم الاقتصاد وتعزيز الإنفاق الحكومي، لا سيما في القطاعات العسكرية. مشيراً إلى أن هذه الخطوة تعزز الاقتصاد الألماني الذي يُعد بمثابة الأوكسجين لمنطقة اليورو، وتمنحه زخماً إضافياً يجعله أكثر قدرة على التعامل مع التحديات الاقتصادية المقبلة.
ويرى صليبي أنه سيكون لدى أوروبا المزيد من الأدوات لمواجهة الرسوم الجمركية الأميركية، التي يُتوقع أن تصبح أكثر قسوة في المرحلة المقبلة، ما يفتح الباب أمام تحول اقتصادي واسع. ولكن القول إن الخطوات التي تقوم بها أوروبا رداً على ترامب ستجعل منها عظيمة مرة أخرى هو أمر مبالغ فيه، حيث من المبكر الحديث عن هذا الأمر، خصوصاً أن منطقة اليورو بحاجة إلى القيام بمزيد من الإصلاحات البنوية والهيكلية.
كما أنه يجب ألا ننسى أن هناك الكثير من الدول في منطقة اليورو لا تزال تعاني من تخبط سياسي واقتصادي، وهذه نقطة ضعف.
ورغم ذلك، فإن الخطوات التي قامت بها أوروبا، مثل خفض الفائدة، أعطت انتعاشاً للأسواق المحلية، في حين أن حالة الزعر التي تحصل في أميركا بين أوساط المستثمرين تدفع تدفقات الأموال للانتقال من الولايات المتحدة إلى أوروبا، وهذا أمر إيجابي جداً للقارة العجوز.
اليورو بديل الدولار؟
ويكشف صليبي أنه مع كل أزمة أو توتر سياسي بين الدول، يعود الحديث مجدداً عن إمكانية استبدال الدولار كعملة احتياطية عالمية. ولكن رغم أن لليورو دوراً مهماً جداً كونه من بين العملات الأكثر استقراراً ويُعتمد عليه بشكل أساسي في الاحتياطيات العالمية، إلا أن العملة الأوروبية الموحدة لا يمكن أن تكون بديلاً حقيقياً للدولار الأميركي في هذا الدور. كما أن الاقتصاد الأوروبي لا يزال يواجه تحديات كبيرة ويحتاج إلى مزيد من الإصلاحات لتعزيز استقراره على المدى الطويل.
في حين أن الثقة بالدولار الأميركي تعود بسرعة كبيرة بعد أي أزمة، ما يعزز استمرارية هيمنته على المشهد المالي العالمي.
مقومات متعددة
من جهتها تقول الكاتبة والصحفية رلى راشد، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن أوروبا لديها كل المقومات التي تجعلها تستعيد دورها التاريخي، مثل اقتصاد ضخم، قوة عاملة ماهرة، وبنية تحتية متطورة. ولكن التحدي الأساسي كان دائماً غياب رؤية موحدة وشجاعة للتحرك كقوة واحدة. أما الآن، ومع تراجع الضمانات الأميركية، تجد أوروبا نفسها مضطرة لاتخاذ قرارات استراتيجية جريئة قد تعزز مكانتها، مشيرةً إلى أن الدفاع الأوروبي المشترك، الدين الأوروبي المشترك، إضافة إلى إصلاح العلاقات مع بريطانيا، هي من دون أدنى شك عوامل أساسية لأي مشروع أوروبي طموح.
خطوات نحو قوة أوروبية موحّدة
وتشرح راشد أن الدفاع الأوروبي المشترك هو خطوة ضرورية لإنهاء الاعتماد على واشنطن، خاصة في ظل التهديدات الجيوسياسية المتزايدة. أما الدين الأوروبي المشترك، فهو خطوة نحو تكامل مالي أعمق، يمنح قدرة أكبر على مواجهة الأزمات.
وبدلاً من أن تقوم كل دولة بإصدار ديونها بشكل فردي، يتم جمع الأموال من الأسواق المالية وتوزيعها بين الدول الأعضاء وفقاً لحاجاتها وأولوياتها وإمكانياتها. لافتةً إلى أن إصدار ديون مشتركة بين دول الاتحاد يجعل أوروبا أقرب إلى نموذج الولايات المتحدة، حيث تصدر الحكومة الفيدرالية السندات بدلاً من الولايات بشكل فردي. ومع عدم الاستقرار في السياسات الأميركية، يرى البعض أن السندات الأوروبية المشتركة يمكن أن تصبح بديلاً عالمياً موثوقاً للاستثمار الآمن.
وتؤكد راشد أن المرحلة الراهنة هي لحظة حاسمة بالنسبة لأوروبا. فالتاريخ يُظهر أن القارة حققت قفزات كبرى بعد الأزمات، سواء بعد الحرب العالمية الثانية أو بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. واليوم، ومع التحديات التي تفرضها سياسة ترامب، فإنه إذا نجحت أوروبا في استجماع قوتها والتخلص من نقاط ضعفها، فستتحول من شريك تابع للولايات المتحدة إلى قوة عالمية حقيقية.
ترامب يثير حالة من الارتباك في الأسواق بعد عاصفة رسوم كندا