حطَّ إبراهيم رئيسي في سوريا هذا الأسبوع بزيارة هي الأولى لرئيس إيراني منذ 12 سنة تقريباً، الزيارة التي جاءت حافلة بالاستعراض والبروباغندا الإيرانية الاستبدادية الموصوفة، سبقها إرسال وزير خارجيته حسين عبد اللهيان إلى لبنان وسوريا فيما بدا تمهيداً وتهيئةً للاستعراض الرئاسي.

قيل في العنوان العريض للزيارة إنها تأتي احتفالاً بالانتصار المزعوم في سوريا والمنطقة، بينما مثّل هذا العنوان الحركي الدعائي لها كونها تضمنت عناوين وأهدافاً أخرى كما سنفصّل لاحقاً.

بداية، لا بد من التساؤل عن أي انتصار يتحدثون، علماً أنهم يقصدون عدم سقوط نظام الأسد وبقاءه بالسلطة على أنقاض البلد وضد إرادة السوريين، فضلاً عن أن سقوطه كان ولا يزال مسألة وقت، بينما ساهمت إيران بذهنية استعمارية طائفية موتورة في تأخيره فقط، مع الانتباه إلى أنه لا يسيطر على نصف البلاد تقريباً، ويبدو فاقد السيادة بالنصف الآخر، الخاضع لسيطرته صورياً وشكلياً وفعلياً لقوى الاحتلال روسيا وإيران، ومستباحاً على مدار الساعة أمام إسرائيل التي يدّعي رئيسي وآلته الدعائية الانتصار عليها.

في الأهداف الفعلية، تبدو الزيارة محاولة إيرانية مكشوفة وفجّة لاستغلال الفراغ السياسي والاقتصادي والأمني لروسيا في سوريا، مع الاستنزاف والغرق في المستنقع الأوكراني، علماً أن موسكو هي القوة الكبرى القائمة بالاحتلال في مناطق الأسد، ولذلك تسعى إيران لتأكيد سطوتها السياسية والاقتصادية والأمنية، واختلاس مكانة روسيا سابقة الذكر. وفي السياق انتُزاع جزء مهم من الكعكة أو للدقة بقايا الكعكة الاقتصادية في سوريا الأسد الطائفية المتجانسة المفيدة للغزاة على اختلاف مسمياتهم وأشكالهم.

هنا لا بد من التذكير أن مصطلح سوريا المفيدة هو إيراني أساساً، وتمّ ترويجه مع بداية الثورة من قبل الحشد الشعبي الإعلامي الناطق بالعربية لتبرير القبول بسيطرة الثوار على مناطق واسعة من البلد، واعتبار بقاء نظام الأسد في دمشق والساحل والمناطق الحدودية مع لبنان بحد ذاته انتصاراً مع القبول الضمني وحتى الصريح بالاحتلال الأمريكي وأداته التقسيمية والانفصالية “قسد” شرق الفرات لإبقاء الجرح نازفاً في سوريا مع غض الطرف الأمريكي عن بقاء نظام الأسد نفسه.

إلى ذلك تجب الإشارة إلى أن خطاب الانتصار استعراضي ودعائي بحت، كون إيران متورطة ومستنزفة في سوريا والمنطقة على حساب اقتصادها ورفاه شعبها وحتى استقرارها الداخلي، وما من انتصار سوى في مخيلة النظام والذهنية الاستعمارية الطائفية المنفصمة التي يتعاطى بها.

في السياق نفسه، لا بأس من التذكير بكلمات اللئيم باراك أوباما عندما تنازل وسحب وعوده ورفض معاقبة نظام الأسد على استخدام السلاح الكيماوي وتسليح أو حتى السماح بتسليح الثوار لإسقاطه، وكل ذلك على مذبح الاتفاق النووي سيئ الصيت مع إيران، وقوله إن هذه الأخيرة إذا أرادت إهدار ثرواتها وحياة مواطنيها على الأسد وسوريا فلتفعل طالما تلتزم بالخطوط الحمر الثلاث؛ لا لمنع تدفق النفط وحرية الملاحة ولا لكسر حدود “سايكس بيكو” ولا لتهديد أو تشكيل خطر أمني جدي على إسرائيل.

بناء عليه، لا شك أننا أمام ترويج للانتصار الدعائي “بروباغندا” على الطريقة السوفيتية سابقاً والروسية حالياً، كما نرى في أوكرانيا والذي يمثل جزءاً بنيوياً من خطاب النظام الاستبدادي الموجّه نحو الداخل والحلفاء، بل الأدوات على أنقاض دولهم المنهارة والفاشلة، كما نرى في لبنان والعراق واليمن وبالطبع في سوريا الأسد.

إلى ما سبق ثمة جزء مركزي من الخطاب الدعائي موجّه إلى إسرائيل مثلما فعل وزير الخارجية عبد اللهيان في لبنان، وكما رأينا في احتفال رئيسي نفسه في سوريا بمنطقة السيدة زينب وعلى بعد أمتار من المواقع والمعسكرات التي تمثل هدفاً دائماً وشبه أسبوعي للغارات الإسرائيلية، بينما بدا وصوله أصلاً بموافقة وضوء أخضر إسرائيلي وبرتقالي بالحد الأدنى، حيث كان بإمكانها ببساطة إخراج مطار دمشق من الخدمة وجلبه أي رئيسي بطائرة شحن كما فعل قاسم سليماني عندما خفر بشار الأسد إلى طهران في زيارته الشهيرة بعيداً عن الدولة الصورية للنظام الإيراني والخارجية والرئاسية، حيث فوجىء به الرئيس حسن روحاني آنذاك بالقصر، بينما اضطر وزير الخارجية جواد ظريف للاستقالة احتجاجاً على إهانته وتجاهله وعدم إخباره بالزيارة أو دعوته لحضور اللقاء.

في البروباغندا الإيرانية تجاه إسرائيل، ثمة سردية ورواية يجب أن تروى فقبل زيارة رئيسي لدمشق، حلّ وزير الخارجية حسين عبد اللهيان في لبنان وجال بالمنطقة الحدودية مع فلسطين المحتلة، فيما بدا ردّاً مباشراً على زيارة نظيره الإسرائيلي إيلي كوهين إلى تركمانستان – الأسبوع الماضي – وافتتاح السفارة الإسرائيلية بالعاصمة عشق أباد وعلى بعد 20 كم من الحدود مع إيران.

عبد اللهيان زار الحدود لإرسال الرسائل بالرغم عن السلطة اللبنانية الشرعية الصورية على علاّتها، أيضاً – ثمة دولة عميقة موازية في لبنان كما بإيران – على علاّتها، وزعم أنه سمع تأكيدات من حسن نصر الله وزياد نخالة تتعلق بنيّة محور المقاومة المزعوم قلب الطاولة على إسرائيل، والهدف كان دعائياً بحتاً ومحاولة لجلب صورة انتصار وهمية تمهيداً لصورة أو صور رئيسي في السيدة زينب ودمشق، بينما ردّت إسرائيل في نفس اليوم بقصف موقع للحزب في الضبعة بريف حمص وعلى أعتاب زيارة الانتصار الوهمي لرئيسي، أخرج مطار حلب من الخدمة، ونظرياً كان باستطاعتها فعل نفس الشيء بمطار دمشق ومنع الزيارة، لكن لم تفعل كونها مستفيدة من البروباغندا الإيرانية خاصة أنها تتصرف وتفعل ما يحلو لها بسوريا والمنطقة، ناهيك عن شدّ العصب الداخلي وحصد ميزانيات إضافية للجيش والأجهزة الأمنية وشيطنة إيران للفت الانتباه عما تفعله هي نفسها في فلسطين.

لا يقل أهمية عن خطاب الانفصام أو ربما جزءاً بنيوياً منه، كان زعم وزير الاستخبارات الإيراني الردّ على إسرائيل وجلب أثمانٍ منها في الداخل والخارج، في تجيير أو استغلال انتهازي وقح وقبيح لعمليات المقاومة الفلسطينية المشروعة في معركتها العادلة.

البروباغندا والدعاية الإيرانية موجهة كذلك للعرب وللدقة الأنظمة العربية، والرسالة هنا مفادها أن نظام الأسد تحت القبضة الإيرانية والتطبيع معه لا بد أن يلحظ ويستند إلى هذه القاعدة، والتخلي عن أحلام أو أوهام إبعاده عن طهران، باعتبار أن الطريق إليه تمر عبرها.

في البعد الاقتصادي للزيارة، ثمة سعي لاستغلال فتات الكعكة بمناطق سيطرة النظام مع استحواذ روسيا على الثروات الاستراتيجية والمهمة مثل الموانىء والقواعد البحرية والجوية والمعادن، وعملياً لم يبقَ سوى قطاع الاتصالات والسيارات المنهار والمتراجع أصلاً في ظل الانهيار الاقتصادي العام للنظام ، ولذلك سمعنا عن الرغبة في الحصول على أراضٍ بسوريا، مقابل الديون الإيرانية فيما بدا بيعاً موصوفاً وصريحاً للبلد ومقدّراتها.

وبالعموم كان أفضل ما في الزيارة تأكيد تبعية نظام الأسد التامة للاحتلال، وفضح كل الجهود العربية للتطبيع معه بحجة إبعاده عن إيران، بينما وصلت الوقاحة والغطرسة الفارسية إلى حدّ مطالبة الأنظمة العربية نفسها الراغبة بالتطبيع بدفع ديون النظام لإيران بحجة أن الحفاظ عليه قدّم خدمة للأنظمة الاستبداد العربية أيضاً.

في الأخير وباختصار وتركيز، بدا اجتماع إبراهيم رئيسي “منفرداً” بوزراء النظام تعبيراً بليغاً عن الزيارة، بل المشهد كله في سوريا الأسد الطائفية المتجانسة المفيدة والمستباحة للغزاة، وهو نفس ما يمكن قوله عن اجتماعه بمسؤولي الفصائل الفلسطينية الهامشية والصغيرة وعديمة التأثير مع تبنيها خطاباً دعائياً انفصامياً يشبه بل هو بالحقيقة صدًى فلسطيني للبروباغندا الإيرانية نفسها.

شاركها.
Exit mobile version