في دمشق، محطة للقطارات ضاربةٌ في القدم، يفخر السوريون بأنها في الماضي السحيق كانت حلقة وصل بين أوروبا وشبه الجزيرة العربية، وفي العصر الحديث أصبحت مركزا وطنيا للنقل، قبل أن تدمرها الحرب وتجعلها خاوية على عروشها. ويأمل عمالها الآن أن تشهد نضهة في القريب العاجل، فما آفاق ذلك؟ وما تلك المحطة التاريخية؟

اعلان

محطة الـقَـدَم، ضاربةُ في القِدَم، فقد كانت عرباتها تجوب عددا من البلدان العربية في أيام الإمبراطورية العثمانية. وتُعدّ هي أكبر محطات الخط الحديدي الحجازي، ومنها انطلقت أولى رحلات الحج عبر السكك الحديدة، قاطعة 1400 كيلومتر، في مدة زمنية قياسية بمعايير ذلك الزمن، إذ لم تستغرق الرحلة سوى يومين ونصف اليوم.

وفي ظل الدولة الحديثة، استمرت المحطة في العمل، طبقا لمعايير النصف الثاني من القرن العشرين، ثم في الألفية الثالثة، قبل أن تشتعل حرب ضروس في سوريا، أتت على الأخضر واليابس، وكان للمحطة نصيب الأسد في الحرب التي خاضها نظام الأسد ضد مسلحي المعارضة بمختلف أطيافها.

فما مستقبل تلك المحطة؟

السيد مازن ملا، مشغّل القطار، ومن بقي على قيد الحياة من زملائه العاملين في هذه المحطة، لا يريدون الاكتفاء بالبكاء على الأطلال، بل يطمحون لأن تبعث الدولة من جديد هذه المحطة العريقة، التي دمرتها الحرب، وصارت مشاهد الخراب فيها بادية للعيان، فعربات القطار متفحمة، وورش العمل تضررت بنيران المدفعية، وأغلفة الرصاص متناثرة على الأرض.. في مشهد يريد العمال وكثير من السوريين أن يكون باعثا على نهضة شاملة في ربوع سوريا، وخصوصا في هذه المحطة ذات البعد الحضاري والثقافي والتاريخي.

ومثلما أحيت الدولة الحديثة ما دمره المقاتلون العرب في انتفاضتهم المسلحة ضد الدولية العثمانية في القرن العشرين، بدعم من بريطانيا وفرنسا وقوات الحلفاء الأخرى التي أسقطت الإمبراطورية العثمانية، يريد السوريون اليوم إحياء سكة الحديد هذه، وإعادة بناء تلك المحطة العريقة على أسس حديثة، لتصبح مثالا يجمع بين العراقة والحداثة، والأصالة والمعاصرة.

 

المسار التاريخي للمحطة

بعد الاستعمار، تأسست الدول العربية الحديثة، وصارت سكة الحديدة موزعة بين أكثر من بلد، فعمدت سوريا إلى استخدام الجزء الخاص بها من تلك السكة الحديدية لنقل الركاب بين العاصمة دمشق ومدينة حلب الشهباء وما جاورها من البلدات، ثم إلى الأردن المجاور.

وبمرور الزمن، صارت عربات القطار بحاجة إلى تحديث، فوُضعت العربات الخشبية القديمة في متحف، وأصبحت المحطة الرئيسية موقعا تاريخيا وقاعة للمناسبات، محتفظةً بهيكلها المصنوع من الحجر العثماني والطوب الفرنسي المجلوب من مرسيليا.

وانتقلت إدارة المحطة إلى مكان قريب، وظلت القطارات تعمل بشكل اعتيادي، حتى اشتعلت الحرب، فصارت المحطة مقرا استراتيجيا تتخذ منه قوات الأسد نقطة للمراقبة، تطلع من خلالها على معاقل الثوار. ثم تحول المكتب الرئيسي للمحطة إلى وكر للقناصة.

وفي العام 2013، عادت محطة القطارات إلى الواجهة، وتناقلت وسائل الإعلام صورها عبر الوسائط المختلفة، بعد أن دار قتال في محيطها، وظهر المتمردون وهم يطلقون النار من بنادق هجومية ويحتمون خلف القطارات.

حينئذ فر الملا وعائلته من منزلهم القريب من المحطة إلى حي قريب. وظلوا يتضرعون إلى الله باستعادة المحطة التي طالما كانت مصدر رزق لهم ولعائلات سورية أخرى.

وفي العام 2018، طردت قوات الأسد مسلحي المعارضة من دمشق، فكانت المحطة رمزا للنصر، فقررت السلطات تشغيلها، على الرغم مما لحق بها من دمار، فافتتحت مرة أخرى، لفترة وجيزة، باعتبارها رمزاً للانتصار والانتعاش. وذكرت وسائل الإعلام الرسمية السورية حينئذ أن القطارات ستنقل الركاب إلى معرض دمشق الدولي السنوي. وبثت صورًا لركاب سعداء عند المدخل وفي الوجهة المقصودة، لكنها تعمدت التغطية على صور الدمار الهائل الذي لحق بالمحطة.

والآن، بعد سقوط نظام بشار الأسد، فرح الناس بعودة الحياة إلى طبيعتها، وانتعش الأمل في أن تعمد السلطات الجديدة إلى بناء طراز حديث من هذه المحطة التاريخية التي تعاقب عليها الـمَـلَـوَان، وبقيت صادمة على مر الزمان.

شاركها.
Exit mobile version