هذا المقال نشر باللغة الإنجليزية

اتجهت أرامل الحرب والأمهات الثكالى في أوكرانيا إلى الفن كوسيلة للتعبير عن حزنهن والتشبث بذكرى أحبائهن. من خلال مشروع “هي على قيد الحياة: قصص حب”، يجدن في الرسم ملاذًا يخفف ألم الفقدان، بينما يواصلن النضال من أجل مستقبل لن يضطر أطفالهن فيه لخوض الحروب.

اعلان

لم يكن الهروب من الحرب مجرد خيار بالنسبة لسفيتلانا، بل كان ضرورة للبقاء على قيد الحياة. بعد أن نجت من أهوال المعارك في يوليو/تموز 2022، أدركت أن الأوكرانيين لن يُجبروا على أي اتفاق سلام لا يعكس تضحياتهم، ولا يمكن أن يتم بأي ثمن. فالثمن قد دُفع بالفعل، حياة أزواجهم وأبنائهم الذين سقطوا في ساحة القتال. وكما تقول: “هدنة بأي ثمن مستحيلة، لأن الثمن قد دُفع سلفًا، أرواح رجالنا وأبنائنا. ولن يكون هناك غفران لهذا أبدًا، أبدًا”.

لكن الألم لم يكن نهاية القصة، بل بداية لفصل جديد من المقاومة. فبعد ثلاثة أشهر فقط من فقدان زوجها، قررت سفيتلانا أن تحمل رايته وتنضم إلى القوات المسلحة الأوكرانية، مدفوعةً برغبتها في حماية أطفالها وضمان أن يكون نصر اليوم درعًا لمستقبلهم. وكما تقول في مقابلة مع يورونيوز: “إذا انتصرنا الآن، فلن يضطر أطفالنا إلى القتال من أجل استقلالهم وحقوقهم”.

الحرب ليست فقط معركة بالسلاح، بل معركة نفسية ضد الألم والخسارة. إدراكًا لهذه الحقيقة، انضمت سفيتلانا إلى مشروع “هي على قيد الحياة: قصص حب”، وهو برنامج علاج بالفن يجمع الأرامل والأمهات اللاتي فقدن أحبّاءهن، ليجدن في الرسم وسيلة للتعبير عن حزنهن العميق.

الرسم، الذي لم يكن يومًا جزءًا من حياتها، أصبح نافذتها الوحيدة للبوح بمشاعرها. ففي إحدى لوحاتها، رسمت زوجها كملاكٍ حارس يحميها ويحرس أطفالها. تعكس هذه اللوحات شهادات صامتة عن الألم والفقدان الذي تعيشه كل امرأة فقدت رجلها في هذه الحرب.

مئات اللوحات.. مئات العائلات المدمرة

بالنسبة لأولينا سوكاليسكا، مؤسسة المشروع، الفن ليس مجرد وسيلة للتعبير، بل هو طوق نجاة. فالعلاج بالفن هو الملجأ الوحيد للنساء اللاتي فقدن أزواجهن وأبنائهن. في هذا المجتمع، يمكن لهن البكاء، الضحك، الاحتفال بأعياد الميلاد، وفوق كل شيء، الشعور بأنهن مفهومات دون الحاجة إلى شرح الألم الذي لا يزول.

ورغم أن الحزن يطغى على قلوبهن، إلا أن لوحاتهن تتحدث غالبًا عن الحب أكثر من الألم. وكما تقول أولينا: “عندما تفقد النساء أزواجهن وأحبّاءهن، فإنهن لا يفقدن شخصًا واحدًا فقط، بل يفقدن عالمهن كله. يصبح كل شيء فارغًا، فراغًا لا يمكن ملؤه”.

في ظل النقص الحاد في المعالجين النفسيين في أوكرانيا، أصبح الفن بديلاً أكثر فاعلية. فحجم الخسائر غير مسبوق، وكل عائلة أوكرانية تقريبًا فقدت أحد رجالها. تقول أولينا إن المشروع شهد أكثر من 300 لوحة حتى الآن، وهي ليست مجرد أعمال فنية، بل رموز لـ 300 عائلة دُمّرت بسبب الحرب.

لكن رغم الحاجة المتزايدة لهذا البرنامج العلاجي، إلا أن المشروع يعاني من نقص الموارد. هناك أكثر من 3 آلاف امرأة في قائمة الانتظار، لكن الإمكانيات المحدودة تحول دون استقبالهن جميعًا في الوقت الحالي.

رسمٌ من أجل الذكرى.. والنجاة من الألم

بالنسبة لفيتا خارشوك، من كييف، لم يكن الرسم مجرد نشاط، بل كان طريقتها الوحيدة للتمسك بذكرى ابنها. ابنها، الجندي في كتيبة آزوف، كان في الخطوط الأمامية عندما اجتاحت القوات الروسية ماريوبول.

آخر صورة أرسلها لها تحولت إلى لوحة، لكن الفرق أن الصورة حملت الأمل، أما اللوحة فحملت الوداع. رسمت فيتا صورة له مع رفاقه، مأخوذة من آخر صورة أرسلها لها في 26 فبراير/شباط 2022، قبل أن يُقتل بعدها بأسابيع. تقول وهي تنظر إلى اللوحة: “في هذه الصورة، أرى ثلاثة شبان، ينبضون بالحياة، بحبهم لوطنهم وأسرهم وأحلامهم. لكنهم جميعًا قد رحلوا”.

فيتا، التي لم تمسك فرشاة من قبل، وجدت في هذا المشروع مجتمعًا يفهم ألمها من دون كلمات. ابنها كان في الثانية والعشرين فقط، وكان يحلم بالزواج وإنجاب الأطفال. لكنها الآن تدرك أن كل هذه الأحلام دفنت معه.

الأم التي فقدت ابنها، فقدت المستقبل. تقول فيتا، والدموع تملأ عينيها: “ألم الأم لا يزول أبدًا. لقد فقدت ابني.. وهذا يعني أنني فقدت المستقبل. لن أكون جدة أبدًا، لن يكون لديّ أي شيء بعد الآن”.

حيث لا يكون الحزن صامتًا

في هذا الاستوديو، لا تحتاج النساء إلى شرح معاناتهن، فكل امرأة هنا فقدت شخصًا تحبه. الرسم ليس فقط وسيلة للتعبير، بل مساحة لاحتضان الألم الجماعي، حيث تصبح الألوان واللوحات شهادات حية على حجم التضحيات.

لكن وسط الألم، هناك إدراك جماعي بأن الثمن الذي دفعوه لا يمكن تعويضه. هؤلاء النساء يعرفن تمامًا أن حياتهن اليوم ممهورة بتضحيات أزواجهن وأبنائهن، وكل الرجال الأوكرانيين الذين وقفوا في وجه الحرب، حتى النهاية.

شاركها.
Exit mobile version