أحداث كبيرة غيّرت واقع تركيا فتحولت من إمبراطورية كبيرة، وخلافة إسلامية إلى دولة علمانية.. في هذا المقال سنلخص لكم أهم الأحداث التي غيرت تاريخ تركيا والمنطقة.
الثورة الصناعية والحرب العالمية الأولى
لم تستطع الدولة العثمانية في سنواتها الأخيرة اللحاق بركب الحضارة والثورة الصناعية التي كانت تعيشها أوروبا وأمريكا فغرقت بالديون والمشاكل.
ثم دخلت الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى في رهان فاشل إلى جانب ألمانيا فخسرت الحرب، وجزءا كبيرا من أراضيها التي استمرت قوى التحالف المنتصرة بقضمها واحتلالها حتى توقيع هدنة موندروس عام ألف وتسعمئة وثمانية عشر 1918، والذي كان بمثابة حكم الإعدام للإمبراطورية العثمانية التي تقلصت مساحتها وخسرت استقلالها السياسي، فنصب التحالف إدارة عسكرية له في إسطنبول واحتلت قواته مدنا إستراتيجية في تركيا.
أتاتورك يؤسس حكومة في أنقرة ويحارب التحالف
أتاحت هذه الظروف لمصطفى كمال أتاتورك تصدر المشهد معتمدا على تاريخه العسكري وخبرته الطويلة فجمع حوله قادة من الجيش، وأطلق مشروعا يوحد بين العسكريين والسياسيين المدنيين في مؤتمر أرضروم، ويقطع العلاقات مع حكومة إسطنبول ويعتبرها غير شرعية ويرفض معاهدة سيفر ” المذلة” الموقعة بينها وبين دول التحالف.
أنشئ مجلس الأمة في أنقرة عام ألف وتسعمئة وعشرين 1920 برئاسة أتاتورك وكان انطلاقة لثلاث معارك مختلفة سياسية ضد حكومة السلطان، وعسكرية ضد التحالف، ودبلوماسية للحصول على ضمان دولي باستقلال تركيا ووحدة أراضيها.
فشكل أتاتورك جيشا منظما على الأسس الحديثة وتخلص من الزعامات والميليشيات وانتصر على أعدائه في عدة معارك أهمها “سكاريا”، فتمكنت “قوى التحرير الوطني” من طرد اليونانيين من أراضي الأناضول بعد دخولها إزمير عام ألف وتسعمئة واثنين وعشرين 1922 ولم يبق لها إلا إسطنبول الأوروبية التي زحفت باتجاهها وتمكنت من دخولها دون حرب.
دخول قوى التحرير إلى إسطنبول مكللة بالنصر كان فاتحة لمواجهة سياسية مع مؤسسات الدولة العثمانية المتبقية، ما يعني وجود حكومتين إحداهما دينية تقوم على السلطنة والخلافة والثانية قومية سياسية يصعب الاندماج أو الانسجام بينهما، لتقرر حكومة أنقرة إنهاء السلطنة والإبقاء على الخلافة منعا لإثارة معارضة في ذلك الوقت الحساس.
استقلالُ تركيا وترسيمُ الحدود
نالت تركيا استقلالها السياسي بعد توقيع معاهدة لوزان عام ألف وتسعمئة وثلاثة وعشرين مع دول الحلفاء، وتمكنت لاحقا من تعديل الشروط الخاصة بالمضائق بما يعرف بمعاهدة “مونترو” التي عززت من خلالها تركيا سلطتها على المضائق والممرات البحرية.
بالإضافة إلى معاهدة لوزان استطاعت تركيا توقيع اتفاقيات لترسيم حدودها وتأمينها كان من أهمها معاهدة أنقرة بين تركيا والعراق وبريطانيا لحل “قضية الموصل” فتنازلت تركيا فيه عن مطالبتها بالموصل وحصلت مقابل ذلك على نسبة من النفط لمدة خمس وعشرين 25 سنة.
الجمهوريةُ الجديدة
بعد استقلال تركيا بدأ تشكل حزب سياسي بقيادة مصطفى كمال أتاتورك عقب اجتماع لجمعية “حقوق الأناضول والروملي” التي تحولت لاحقا لحزب الشعب الجمهوري بزعامته، وجرت تعديلات دستورية وافق عليها المجلس الوطني التركي فتغير شكل الحكم وتحول من الخلافة العثمانية إلى الجمهورية التركية عام ألف وتسعمئة وثلاثة وعشرين 1923، وكان أتاتورك أول رئيس لها، وهكذا سقطت آخر خلافة إسلامية عرفها التاريخ .
أراد أتاتورك التحول بالجمهورية التركية نحو الغرب فبدأ بعلمنة مؤسسات الدولة وإغلاق كل ما يرتبط بالخلافة العثمانية والمناصب الدينية فألغى الخلافة والمحاكم والمدارس الدينية وحذف جملة “الإسلام دين الدولة من الدستور” واستبدل الحروف العربية بلاتينية، فانقسم المجتمع التركي بين مؤيد ومعارض لهذه السياسة واندلعت ثورات كان أبرزها ثورة الشيخ سعيد إلا أنها أخمدت جميعها بالقوة.
جمهوريةُ هاتاي
“جمهورية هاتاي” أو “لواء إسكندرون” هي الجزء الأخير الذي انضم لتركيا، حيث وقعت فرنسا اتفاقيتين مختلفتين حولها مع تركيا وسوريا وبعد تعقد المسألة أحيلت إلى الأمم المتحدة التي قضت باستقلال اللواء عام ألف وتسعمئة وثمانية وثلاثين 1938 تحت اسم “جمهورية هاتاي” وبعد عام من استقلالها طالب البرلمان فيها بالانضمام لتركيا وفق استفتاء شعبي كانت نتيجته لصالح الانضمام.
تركيا في الحرب العالميةِ الثانية
حاولت تركيا البقاء على الحياد في الحرب العالمية الثانية واتبع الرئيس عصمت إينونو سياسة مراوغة في سبيل ذلك فقد تودد لألمانيا عندما كانت منتصرة، ثم أعلن الحرب عليها وطرد سفيرها بأنقرة بعد اتفاق مع أمريكا وبريطانيا عقب خسارة ألمانيا في عدة معارك أمام الاتحاد السوفيتي والحلفاء.
التعدديةُ السياسيةُ في تركيا
تفرد حزب الشعب الجمهوري بالحكم حتى منتصف القرن الماضي تقريبا، وبعد تذمر الأتراك من سياسة الحزب الواحد وانتشار عدد من الصحف والمجلات المعارضة حدث شرخ كبير في صفوف حزب الشعب الجمهوري وطرد ثلاثة من أعضائه أبرزهم عدنان مندرس، واستقال رجل الأعمال جلال بايار من الحزب ليقوم الأخيران بتشكيل الحزب الديمقراطي الذي حقق فوزا ساحقا على حزب الشعب الجمهوري عام ألف وتسعمئة وخمسين 1950.
أصبح جلال بايار رئيس الجمهورية وتولى عدنان مندرس رئاسة الوزراء وشمل برنامجه إصلاحات في عدة مجالات وإطلاقا للحريات الدينية فسمح بالأذان وقراءة القرآن باللغة العربية وأعاد فتح مدارس الأئمة والخطباء وكليات الإلهيات وسمح بأداء فريضة الحج التي كانت ممنوعة سابقا، وعلى الصعيد الدولي تمكنت تركيا في عهده من الانضمام لحلف الناتو عام ألف وتسعمئة واثنين وخمسين 1952.
انقلاباتُ تركيا
بعد الإطاحة بحكومة عدنان مندريس وإعدامه وسجن الرئيس السابق جلال باير واجهت تركيا ثلاثة انقلابات أزيح في الأول سليمان ديمريل زعيم حزب العدالة ورئيس الحكومة بما يعرف ب “انقلاب المذكرة” حيث قدم رئيس الأركان مذكرة للرئيس جودت صوناي تطالب بتشكيل حكومة قوية لمحاربة الفوضى فقدم دميريل استقالته من رئاسة الحكومة وشكلت حكومة تكنوقراط برئاسة “نهاد إيريم” وإشراف الجيش.
حكومات ائتلافية هشة فشلت في إدارة تركيا سياسيا وصراع دموي بين الأحزاب وأزمة اقتصادية وتضخم كانت مقدمات لانقلاب جديد قاده الجنرال كنعان إيفرين عام ألف وتسعمئة وثمانين 1980 وكان الأكثر دموية في تاريخ تركيا فقد تم اعتقال نحو ستمئة وخمسين ألف شخص وتجريد أربعة عشر ألفا من الجنسية التركية وإعدام العشرات ونفي سياسيين وقادة أحزاب أبرزهم نجم الدين أربكان وتشكلت حكومة انقلابية برئاسة قائد القوات البرية الأسبق (بولنت أولسو).
تولى تورغوت أوزال رئاسة الحكومة ثم أصبح رئيسا للجمهورية خلفا ل “إيفرين” وتمت في عهده إصلاحات في عدة مجالات. توفي أوزال عام ألف وتسعمئة وثلاثة وتسعين 1993 فخلفه سليمان ديميرل في رئاسة الجمهورية وتشكلت عدة حكومات في عهده كان أبرزها حكومة نجم الدين أربكان التي تمت إزاحتها بانقلاب هادئ عام ألف وتسعمئة وسبعة وتسعين 1997 عرف ب “انقلاب ما بعد الحداثة” حيث اكتفى الانقلابيون بإنزال الجيش والدبابات إلى الشوارع فمنع أربكان وعدة شخصيات من مزاولة السياسة منهم رجب طيب أردوغان وكان هذا آخر انقلاب ناجح تشهده الجمهورية التركية لتطوى بعدها صفحة الانقلابات ويبقى الحكم لصناديق الاقتراع.
حزبُ العدالةِ والتنمية يغيّرُ وجهَ تركيا
بعد الفوز الساحق الذي حققه حزب الرفاه بقيادة أربكان في انتخابات البلديات عام ألف وتسعمئة وأربعة وتسعين 1994 تولى أردوغان رئاسة بلدية إسطنبول فكانت بوابته للحلم الكبير، بعد نجاحه بقلب واقع المدينة نحو الأفضل وحل أبرز مشاكلها.
ولد حزب العدالة والتنمية على يد أردوغان ورفاقه بعد إغلاق حزب الفضيلة واكتسب الحزب شعبية كبيرة باتباعه سياسات اقتصادية وإصلاحية في كل المجالات بعد أن حقق فوزا ساحقا في الانتخابات التركية ليصبح أردوغان رئيس الحكومة التركية، خلفه قاعدة شعبية كبيرة وثقة الناخبين وأمامه جبال من التحديات ودولة ضعيفة غارقة في الديون.
اهتم بالصناعة وشجع الاستثمار وبدأ إصلاحات نقدية فأزال ثلاثة أصفار من العملة التركية التي فقدت قيمتها، وأعطت الدولة قروضا كبيرة للشركات فنما الإنتاج المحلي وأصبحت تركيا في عهده من أسرع الدول نموا اقتصاديا، واهتم بالسياحة وطورها فجعل من تركيا وجهة مميزة للزائرين.
وفي عهد حزب العدالة والتنمية شهدت تركيا طفرة في صناعات العصر فبدأت تركيا بإنتاج أول سيارة كهربائية تركية وحققت قفزات كبيرة في الصناعات العسكرية والدفاعية.
اليوم وبعد مرور عقدين على حكم العدالة والتنمية لتركيا شهد النصف الأول منها جماهيرية كبيرة واستقرارا ونهضة في كافة المجالات بعد تصفير المشاكل الخارجية والداخلية؛
بدأت التحديات الكبيرة تواجه الحزب الحاكم بالتزامن مع ثورات الربيع العربي تلتها احتجاجات غيزي بارك عام ألفين وثلاثة عشر 2013 .
وبلغت الأزمة ذروتها بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في الخامس عشر من تموز ألفين وستة عشر والذي غير مجرى الأحداث في تركيا، فأعلنت الحكومة حالة الطوارئ واعتقل مئة وستون ألفا منهم سياسيون وعسكريون وصحفيون ومثقفون بتهمة ارتباطهم بتنظيم غولن، وسرح مئات الآلاف من مؤسسات حكومية وخاصة وأغلقت الكثير من القنوات والصحف والمجلات.
ومع استمرار الأزمة وتراجع شعبية الحزب عقد أردوغان تحالفا مع حزب الحركة القومية، وأجرى استفتاء نجح من خلاله بتحويل نظام الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي ليكسب بعدها الانتخابات الرئاسية عام ألفين وثمانية عشر 2018 ويفوز برئاسة الجمهورية على خصمه محرم إنجه مرشح تحالف الشعب المعارض.
ورغم هذا الفوز تراجعت شعبية حزب العدالة والتنمية بسبب تردي الوضع الاقتصادي وانخفاض قيمة الليرة التركية إضافة لاتهام الحزب بتقييد الحريات والديمقراطية في البلاد فخسر الحزب في انتخابات البلديات عام ألفين وتسعة عشر 2019 ولايات مهمة كإسطنبول وأنقرة وغيرها.
نقترب الآن من لحظات الحسم في حرب الكبار سلاحها الأصوات الانتخابية في صناديق الاقتراع وليس البراميل المتفجرة والأسلحة الكيمائية والصواريخ، فعلى الجبهة الأولى يجلس أردوغان ومعه خبرة السنوات ودور إقليمي فعال، مدعوما بالقوميين والمحافظين.
وعلى الجبهة الأخرى يجلس كمال كليشدار أوغلو مدعوما بستة أحزاب من إيديولوجيات مختلفة اجتمعت على إزاحة العدالة والتنمية وتغيير الحكم في تركيا، تساعدهم شبكات إعلامية ضخمة ويساندهم معظم الأكراد والعلمانيين والأقليات، وتؤيدهم فئة كبيرة من الشباب.
وبين هذين الحزبين وعلى أطراف الجبهتين هناك مرشحان لأحزاب وتحالفات صغيرة لم يحصدوا في معظم الاستطلاعات سوى على نسبة ثمانية بالمئة 8% من مجموع الأصوات، الأول منافس أردوغان السابق والذي انشق عن حزب الشعب الجمهوري وأسس حزب “البلد”، لينسحب من السباق الرئاسي مؤخرا، والثاني سنان أوغان مرشح تحالف الأجداد.
لمن سيكون الحسم ومن الذي سيعتلي عرش الرئاسة في مئوية تركيا؟ هذا ما سنعرفه قريبا.