دكار – السنغال
بضفائر جعد، مرسلة على المنكبين، وبترانيم غنائية يردد “الباي فال” أهازيجه الدينية مثنيا على الشيخ أحمدو بمبا، أحد أبرز المرجعيات العلمية والصوفية في تاريخ السنغال، في وقت تلهج فيه آلاف الألسنة الأخرى بالأهازيج والترانيم الصوفية في الزوايا والحضرات المنتشرة في مختلف مناطق البلاد.
وتحافظ السنغال منذ قيام دولتها الوطنية على توازن دقيق بين نظام علماني يكرسه الدستور، وحضور صوفي يفرض إيقاعه الروحي على المشهد العام، في حالة من التعايش والتفاعل قلّ لها نظير في العالم الإسلامي.
ولا يمكن تقديم رقم محدد عن أتباع الطرق الصوفية في المجتمع السنغالي الذي يتماهى فيه الإسلام مع التصوف، حيث لا يعرف السنغاليون الإسلام إلا من خلال التصوف، ولا يرون عنه بديلا، حتى وإن حاولت التيارات الإسلامية الأخرى مجددا إيجاد موطئ قدم لها إلا أنه يبقى تحت سقف الصوفية وفي دائرتها المهيمنة على الدين والمال والناس في السنغال.
المريدية والتيجانية.. قطبان للدين والدنيا بالسنغال
للطريقة التيجانية تأثير قوي وفعال في السنغال، وهي واحدة من أهم الطرق التي انتشرت وتمكنت من شغاف ووجدان الإنسان في شمالي وغربي أفريقيا، وتتوزع التيجانية في السنغال إلى مشربين كبيرين هما:
- الطريقة الإبراهيمية: في مدينة كولخ أو ما تعرف بالفيضة الإبراهيمية، التي أخذت ذروتها مع شيخ الإسلام كما يلقبه تلاميذته وأنصاره الشيخ إبراهيم نياس الكولخي (1900-1975)، حيث كان ظهوره انقلابا قويا في مسار الطريقة التيجانية، حينما أعلن عن الفيضة التيجانية التي دفعت بالإرث الروحي للفوتيين التيجانيين إلى أبعاد أكثر عمقا وشعبوية في آن واحد.
عرف عن الشيخ إبراهيم نياس أنه متحدث بارع بالفصحى وشاعر طالما تغنى التيجانيون بمدائحه، كما عُرف بغزارة علمه وقدرته على التأثير الروحي ليس في السنغال فحسب، وإنما في أجزاء واسعة من أفريقيا وخارجها.
وتقوم فكرة الفيضة على “نبوءة” أو بشارة من مؤسس الطريقة التيجانية الشيخ أحمد التجاني حين قال إنه “تأتي فيضة على أصحابي حتى يدخل الناس في طريقتنا أفواجا أفواجا، تأتي هذه الفيضة والناس في غاية ما يكونون عليه من الضيق والشدة”.
وطالما تشوف قادة التيجانية إلى أن يكونوا أصحاب هذه الفيضة، دون أن ينال كثير منهم اعترافا قويا مثل ما لاقى الشيخ إبراهيم نياس، ليحمل -وخلفاؤه- من بعده لقب صاحب الفيضة.
وتعتبر مدينة كولخ السنغالية (189 كلم جنوب شرق العاصمة دكار) عاصمة الطريقة التيجانية الإبراهيمية، وتستقبل سنويا مئات الآلاف من الزوار من مختلف أنحاء العالم، وخصوصا من دول غرب أفريقيا.
ويتولى الشيخ محمد الماحي إبراهيم نياس شؤون الخلافة العامة، ويدير شبكة هائلة من الوحدات المندمجة فيما تعرف بالدوائر التيجانية، التي تتدرج وفق ترتيب يبدأ من الخليفة العام إلى دوائر وتجمعات كبرى.
ولا يمثل التيجانيون الإبراهيميون في السنغال -رغم عددهم الكبير- إلا نسبة أقل في جنب إخوانهم في الطريقة في نيجيريا التي يرتفع فيها أتباع الشيخ إبراهيم نياس إلى عشرات الملايين، وفق تقديرات أتباع الطريقة.
وقد مكنت الشخصية القيادية للشيخ إبراهيم نياس وبراعته اللغوية من ترسيخ قوته ومكانته في بلاده وخارجها، حيث نال عضوية مجامع إسلامية كبيرة، كما زار بلدانا عديدة مثل مصر (الأزهر) والهند والمغرب وموريتانيا، التي يدين كثير من نخبها العلمية والشعبية بولاء صوفي للطريقة الإبراهيمية.
وقد اهتم الشيخ نياس بالتعليم وخصوصا باللغة العربية، فأسس معاهد إسلامية قوية ومؤثرة حافظت على عنصر قوة للهوية الإسلامية في وجه الفرنكفونية الضاربة في أعماق السنغال المعاصر.
ويعتبر جامع الشيخ إبراهيم نياس أو بعبارة أخرى “جامع مدينة باي نياس” واحدا من أبرز التحف المعمارية الإسلامية في السنغال وغربي أفريقيا، ويتبارى مقدمو الطريقة التيجانية في أنحاء العالم في إقامة جوامع ومساجد بذات التصميم، بالمنائر الأربع والقباب الخُضر.
وينتمي إلى التيجانية الإبراهيمية عدد كبير من الأطر والشخصيات المؤثرة في السنغال، ويقال على نطاق واسع إنها أكثر الفرق الصوفية في هذا البلد استقطابا للكفاءات والأطر.
وللتيجانية الإبراهيمية دور أساسي في المشهد السياسي نظرا للوزن الانتخابي القوي لأتباعها، إلا أنها كسائر الطرق الصوفية في البلاد، تمثل -وفقا لمراقبين- واحدة من أسوار حماية المنظومة القائمة في البلاد.
كما أن التيجانية الإبراهيمية تمثل أيضا جزءا من خارطة الدبلوماسية غير الرسمية، وقد كان لخليفة الطريقة التيجانية الإبراهيمية حينها دور كبير في حماية الموريتانيين من “مذابح” أحداث 1989 الدامية بين البلدين، وهو “الجميل” الذي لا ينساه له كل الموريتانيين.
- تيواون.. الحاضرة العمرية
تنتمي الحاضرة التيجانية في تيواون إلى المشرب العمري، حيث أخذ أتباعها سلسلة أذكارهم وانتمائهم التيجاني عن الشيخ الحاج عمر تال.
واستقرت الطريقة التيجانية في تيواون عبر مشيخة آل الحاج مالك سي (1885-1922)، الذي كان عالما وشاعرا مفلقا، ومؤلفا، وقد وصل إلى المدينة في العام 1902 قادما من داغانا في شمال السنغال، لتفتح المدينة منذ ذلك الحين أهم صفحة في تاريخها، بعد أن أصبحت أحد أهم المعاقل الصوفية في البلاد.
يرتبط تاريخ المدينة بدورها الصوفي الذي بدأ مع عام 1902 عندما حط فيها شيخ الطريقة التجانية الحاج مالك سي (1885-1922) رحاله قادما من منطقة داغانا شمالي البلاد، واتخذها معقلا لنشر تعاليم طريقته في المنطقة.
ويتولى الخلافة العامة للتيجانية في تيواون الشيخ أبو بكر منصور مالك سي، وهو سابع خلفاء آل الحاج مالك سي.
وتمتاز مدينة تيواون باقتصادها القائم على الزراعة، وتشهد حركية اقتصادية متسارعة في مناسبات المولد النبوي، حيث تفد إليها أعداد كبيرة من الزوار من داخل البلاد وخاصة من “الولف” التي تمثل أقلية ذات ارتباط عرقي بالأغلبية السكانية في السنغال، علاوة على أعداد أخرى من مختلف البلدان المجاورة.
المريدية.. الأكثر نفوذا في السنغال
يحمل أتباع الشيخ أحمدو بمبا بن حبيب الله امباكي لقب المريد، ويعرف عن مؤسسها كونه أحد أهم علماء غرب أفريقيا وأكثرهم تأثيرا في منطقة ضفاف نهر السنغال، كما يصنف ضمن الكرماء الأسخياء الذين سارت الركبان بعطاياهم وهباتهم السخية.
ومركز المريدية هو مدينة طوبى التي أخذ منشؤها اسمها من الآية الكريمة “طوبى لهم وحسن مآب”، وتتعدد في تراث الشيخ أحمدو بمبا التسميات ذات الرمزية الدينية، فكانت منازله تحمل أسماء مثل دار السلام ودار المنان ودار القدوس ودار العليم الخبير.
وقد تعرض الشيخ أحمدو بمبا لمحنة التغريب لمواجهته الفرنسيين أو خوفهم من أتباعه، حيث سجن في دولة الغابون عدة سنوات، كما تعرض بعد ذلك لتغريب آخر في موريتانيا، قبل أن يعود إلى بلاده.
ويحتفي السنغاليون كل سنة بذكرى الغيبة الجبرية للشيخ أحمدو بمبا في موسم يحمل اسم “ماغال” احتفاء بهذه الذكرى، ويشارك فيها قرابة 5 ملايين من السنغاليين وضيوفهم، وتتضمن فعاليات متعددة.
وللمريدية في الفترة الأخيرة ميل متصاعد إلى ترسيخ دورهم العلمي الذي بدأ منذ عقود عبر المعاهد الأزهرية، وقبل أكثر من سنة أنشأت الخلافة مجمع الشيخ أحمدو بمبا الذي يجمع بين مسارات تعليمية تقليدية وعصرية ومهنية.
وللقادرية نصيب
عرف السنغال انتشارا واسعا للطريقة القادرية خلال القرنين الماضيين نتيجة لنشاط آل الشيخ المختار الكنتي (توفي 1811) والشيخ محمد الفاضل بن مامينا (توفي 1869)، ويمكن القول إن القادرية هي أم الطرق الصوفية في السنغال، مع أنها شهدت تراجعا كبيرا في موقعها وحضورها وعدد أتباعها في البلاد، مقارنة بالحضور الكبير عددا ونفوذا للطريقتين التيجانية والمريدية.
ورغم ذلك، ينتمي اليوم إلى الطريقة القادرية عدد كبير من السنغاليين، وخصوصا أتباع آل الشيخ محمد فاضل، وهي أسرة موريتانية ذات تأثير مكين في المنطقة، ويمثل البيت السعدي منها بشكل خاص محور التأثير في البلاد، ورغم أن هذا البيت يعيش صراعا مريرا على خلافته الآن، فإن لكلا المتنازعين حضورا قويا وتأثيرا في السنغال.
ويؤدي أتباع القادرية زيارة موسمية إلى قرية النمجاط في موريتانيا، حيث تستقبل هذه القرية الغافية بين الرمال قرابة 100 ألف زائر سنويا، وتضفي هذه الزيارة حركية اقتصادية كبيرة في جنوب موريتانيا خلال الأيام الأخيرة من رمضان، كما أنها تعتبر أيضا مصدر ثراء كبير لأشياخ وقادة الطريقة السعدية في موريتانيا.
“اللايين”.. ملابس بيضاء لأتباع ليمامو لاي
تحتفي جماعة “اللايين” -أي الإلهيين- في شهر شعبان من كل سنة بذكرى تنبئ إمامها المدعو لباس تياو (1843-1909)، المنتمي إلى مجموعة “الليبو” ذات التاريخ العريق في المجتمع السنغالي؛ حيث يقول العارفون بالتاريخ السنغالي إنهم الملاك الأصليون لأرض العاصمة دكار، ويقولون إن سلطتهم الفعلية على تلك المنطقة تعود إلى بداية القرن السابع عشر، وتحديدا العام 1601 حينما أسسوا مدينة “واكام” التي تحولت اليوم إلى إحدى مناطق دكار.
وعرفت مجموعة الليبو بانشغالها بالصيد، وتقول بعض مصادر التاريخ السنغالي إنهم ينحدرون من مجموعة عرقية قدمت إلى منطقة غرب أفريقيا من مصر، أو من ليبيا.
وقد ظهرت جماعة اللايين في العام 1880 على يد صياد أميّ من هذه المجموعة ذات التقاليد العرقية والقوانين الاجتماعية الصارمة، ولذلك لا يعرف لها نشاط كبير خارج هذه المجموعة (الليبو).
وقد تنبأ الرجل عندما بلغ الأربعين من عمره وأخبر أتباعه في العام بأنه نبي السود، وحمل اسم “ليمامو لاي”، أي الإمام الذي عينه الله، ويذهب بعض أنصار الرجل إلى أنه لم يدعِ النبوءة بل اكتفى بالمهدوية، حيث بات يطلق عليه “سيدنا إمام الله المهدي” ويعتقدون أن القرآن الكريم هو رسالتهم.
وقد اشتد عود هذه الجماعة وازداد انتشارها أكثر خلال خلافة ابنه “روح الله عيسى المهدي”، الذي تولى قيادة الجماعة بعد رحيل والده، واستمرت خلافته 40 عاما، رسخ فيها مذهب والده، وأضاف إليه رؤى جديدة.
ويمتاز “اللايين” بملابسهم البيضاء النقية التي يرتدونها في احتفاليتهم السنوية في شهر شعبان -ذكرى نبوءة أو مهدية شيخهم ليمامو لاي-، وتقام هذه التجمعات وطقوسها على شاطئ النهر في حي يوف بالعاصمة السنغالية دكار، في رمزية أخرى لشيخهم الذي ينتمي إلى شريحة الصيادين.
ويتبع لهذه الطريقة عدد كبير من السنغاليين تقدره بعض المصادر الإعلامية بحوالي 6% من مجموع السكان.
ومن طقوس هذه الطريقة التقشف الشديد، ومن وصايا إمامها الأكل من الحلال والبعد عن الملاهي والملذات.
خصائص ومميزات
يرى الأستاذ في جامعة الشيخ أحمد الخديم والمتخصص في الدراسات الإسلامية سام بوسو عبد الرحمن، في حديث للجزيرة نت، أن من بين الخصائص التي تميز التصوف السنغالي هي انغراسه بعمق واتساع في البيئة السنغالية، حيث يمكن القول إن التصوف من أهم العوامل التي تؤثر في حياة المسلمين في السنغال لأن الغالبية العظمى من المسلمين في البلاد ينتمون إلى طرق صوفية كان لها دور كبير في نشر الإسلام في الأراضي السنغالية وفي تربية الناس وفي تأطيرهم.
ويتميز التصوف السنغالي، وفق عبد الرحمن، بأنه مندمج مع حركة المجتمع ويبتعد عن العزلة والانزواء في أركان وزوايا بعيدة عن المشهد العام للحياة ويومياتها، فالطرق الصوفية تؤطر الناس وتساعدهم على الاندماج في المجتمع السنغالي، إذ إن الصوفي يعيش فترة في الزوايا للتربية والتكوين الروحي، ثم يندمج بعد ذلك في المجتمع، وهذا هو الأساس، وحينما انتشر العمران في الحواضر كانت هناك مؤسسات طرقية تسمى بالدوائر، وهذه الدوائر كان لها دور كبير في تأطير المريدين داخل الحواضر.
ويشير عبد الرحمن إلى أن الأدوار التي تقوم الجماعات الصوفية في السنغال لا تقتصر على جوانب التزكوية والروحية، بل تشمل جميع النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها.
فمن الناحية الاجتماعية، تقوم بدور كبير في توجيه حياة الناس حتى في حياتهم الأسرية، وتساعد الشباب على الزواج وعلى الحصول على فرص العمل وتتدخل حتى في حياتهم الشخصية.
ومن الناحية السياسية، تشرئب الأنظار إلى قيادات ومشايخ الطرق في المواسم الانتخابية، ويتهافت السياسيون والمرشحون على مقرات ومنازل المشايخ انتظارا لأي تصريح داعم أو إيحاء يمكن أن يستغله السياسيون لجذب ملايين الناخبين المنتمين لهذه الطرق.
اقتصاد الصوفية.. حق معلوم في مال الغني والكادح
يتوزع السنغاليون بين الطرق الصوفية، ويعتقد كثير من البسطاء والعوام أن من لم يكن له شيخ فلن يستقيم له إسلام، ومن لم يهد لشيخه فلن تتقبل عبادته، وهكذا يتعبد كثير من المريدين والأتباع بتقديم أنواع الهدايا طيعة بها نفوسهم إلى مشايخ الطريقة التي ينتمون إليها.
وتعد المزارع والحقول التابعة لبعض الطرق والتي تعمل فيها أعداد كبيرة من الشباب السنغالي المنتمي لها، أحد أقوى مصادر الدخل لتلك الطرق.
يمول الأبتاع والمريدون من جيوبهم وكدحهم المتعب خزائن الطريقة التي ينتمون إليها، فمنهم من يهدي من ماله، ومنهم من كده وعمل يده.
وفي بعض القرى يقيم المزارعون حقلا خاصا بالشيخ يتبارون في زراعته وخدمته، وحمل محصوله أو ريعه إلى شيوخ الطريقة، وذلك تعويضا عن عدم الخدمة المباشرة.
وتمثل حقول الفستق بشكل خاص أكبر المناجم الاقتصادية التي يستفيد منها المشايخ، حيث يعمل مئات الآلاف من السنغاليين، ومنهم أعداد كبيرة من أتباع تلك الطرق، وبالذات الطريقة المريدية.
وتتقرب الدوائر التيجانية سنويا هي الأخرى بتقديم قرابين وهدايا مالية كبيرة حسب كل دائرة إلى الخليفة العام، الذي يستقبل الزوار سنويا خلال توافدهم عليه في شهر رمضان المبارك.
وينفي قادة الصوفية والمتحدثون باسمها وجود أي نوع من أنواع الاستغلال فيما يتعلق بتوظيف الأتباع والمريدين في الحقول والمزارع ونحوها، بل يرون الأمر نوعا من أنواع التطوع الذي يستفيد في مقابله المريد بتربية روحية ورعاية من مشايخ الطريقة.
ويرى هؤلاء أنه إذا امتلأت خزائن المشايخ فاضت على الأتباع ومؤسسات الطريقة المختلفة، من مدارس إسلامية ورباطات صوفية وضيافة وأعمال خيرية متعددة، مثل كفالة الأيتام وتعليمهم وعلاج المرضى، إضافة إلى التكاليف اليومية لمؤسسة الخلافة التي تتشكل من الأسرة الكبيرة وموظفي مكتبه وعماله.
وفي بعض الأحيان “يتصوف” رجال الأعمال لأسباب اقتصادية، تكفل لهم إيجاد سوق عريضة من المريدين والأتباع، وهو ما يؤكده الباحث السنغالي سام بوسو عبد الرحمن في حديث للجزيرة نت، الذي استعرض فيه الأدوار المتنوعة للطرق الصوفية بالمجتمع السنغالي قائلا “من الناحية الاقتصادية نرى الشيوخ المتصوفة يشاركون في الحياة الاقتصادية، فمن حيث الإنتاج لهم حقول ومزارع كبيرة، وبعضهم يشارك في القطاع الصناعي، ونرى كثيرا من الأغنياء ينتمون إلى الطرق الصوفية، وهذا الانتماء يظهر في عملهم لأن أتباع الطرق يصبحون كأسواق لهؤلاء، فالحياة الصوفية تندمج مع الحياة الاقتصادية بشكل متكامل”.
وتنتشر صور المشايخ المكبرة على المحلات والمؤسسات، أو صغيرة تتأرجح على قبعات الشباب وفوق صدور الفتيات والنساء.
كما أن بعض السنغاليين يجمع في بيته أو سيارته أكبر كم من صور المشايخ، أو يكتب أسماءهم بخط مغربي عتيق على ممتلكاته استدرارا للبركات وطردا للأرواح الشريرة.
وباتت المنحوتات وصور الشيوخ تجارة رابحة تشغّل آلاف السنغاليين، وما لها من مردود مالي متواصل، ولتعلق أغلب السنغاليين بها باعتبارها “تمائم وأحرازا تشفي وتكفي”.
وفي أحيان أخرى لا يخفي بعض السنغاليين، وخصوصا الشباب منهم، تعلقهم بمطلق الدين، فيحضرون احتفاليات الطرق الصوفية ويصلون الجمعات، ويذهب بعضهم أبعد من ذلك بحضوره قداسا في الكنيسة، وذلك ضمن سياق عام يتسم بتعايش مستمر بين الأديان والمجتمعات المتعددة في البلاد.
الصوفية والسياسة.. علاقة تحت أسوار العلمانية
لا تصدر عن الطرق الصوفية في السنغال رأي سياسي ولا يعبر الخلفاء إلا نادرا عن موقف سياسي، وفي مقابل ذلك يحظون برعاية وتقدير كبير من الرؤساء بغض النظر عن انتماءاتهم الصوفية أو السياسية.
وبين الحين والآخر تعين الأنظمة السنغالية شخصيات مرموقة في الوسط الديني في مناصب استشارية.
وضمن هذا التقدير يحظى أحفاد المشايخ ومقربو الطرق الصوفية بامتيازات خاصة من بينها الحصول في بعض الأحيان على جوازات سفر دبلوماسية.
وإذا كانت القوى الإسلامية بشكل عام قد تصدت للاستعمار الفرنسي، فإن الصوفية سرعان ما تأقلمت معه، مكتفية في أحيان كثيرة بالممانعة الثقافية كما هو حال الشيخ إبراهيم نياس الذي منع أبناءه من التعليم الفرنسي طيلة الفترة الاستعمارية.
بيد أن الشيخ أحمدو بمبا يعدّ أيقونة الكفاح الهادئ ضد الفرنسيين، حيث خضع للنفي والتغريب إلى دولة الغابون مدة سبع سنين، كما خضع لإقامة جبرية أخرى في موريتانيا مدة أربع سنين أخرى، قبل أن تفرض عليه إقامة جبرية في بيته إلى وفاته سنة 1927.
أما الشيخ الحاج مالك سي -أحد أبرز رموز الطريقة التيجانية، توفي يوم 17 يونيو/حزيران 1922- فقد كان أكثر وضوحا في التعبير عن نفسه، إذ اعتبر أن وصول الفرنسيين إلى السنغال كان نعمة توقف بسببها كثير من مظاهر الفوضى والاقتتال والعنف المتبادل، حيث يقول “ومن نظر بعين الحكمة الإلهية واعتبر فيما جعل الله لهم من النصر والعافية فلا يخالفهم. ولا تغتروا بقول المحمقين الذين يقولون لكم: قد قرب انقطاع الدولة الفرنساوية لخيالات فاسدة. وذلك علمه موكول إلى الله لا غير”.
ومع ذلك لم تخل علاقة القوى الصوفية مع مختلف الأنظمة من شد وجذب، وخصوصا مع النظام المؤسس الذي قاده الرئيس المسيحي ليوبولد سيدار سينغور المنتمي إلى أقلية لا تبلغ 5% في المجتمع السنغالي ذي الأغلبية المسلمة الساحقة.
وقد كانت العلاقات بين سينغور والشيخ إبراهيم نياس (توفي 27 يوليو/تموز 1975) متوترة للغاية، وعمل نياس على مواجهة المد التنصيري الذي كان يرى أنه يحظى بدعم الرئاسة، وحيثما أقيمت كنيسة جديدة، كان الرجل حريصا على إقامة مسجد، وإدارة الأذكار التيجانية بشكل مزعج للقداس المسيحي، وفق ما يقول بعض مقدمي التيجانية في السنغال.
كما أثارت العلاقات الوطيدة بين الشيخ إبراهيم نياس والزعامات العربية، مثل الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والرئيس الجزائري أحمد بن بله والملك السعودي فيصل بن عبد العزيز، غضبا مستمرا لدى سينغور الذي كان من أبرز معادي الاستعراب في السنغال.
ولكن سينغور سعى لاحقا إلى تطوير علاقات ودية خاصة مع الطريقة المريدية، وهو المنهج الذي واصل فيه خلفه الرئيس الأسبق عبدو ضيوف، واستفاد منه في النصف الأول من فترة حكمه، حيث حملته أصوات المريدين إلى سدة الرئاسة مرة أخرى في العام 1988، قبل أن تنخرط الخلافة المريدية في مواجهة ضيوف بعد رفضه الانصياع لمطالبها بمنع زيارة بابا الفاتيكان يوحنا بولص الثاني إلى السنغال عام 1992، وكان ذلك بداية النهاية في العلاقة بين الطرفين، حيث منحت الطريقة دعما قويا للزعيم المعارض حينها عبد الله واد في مواجهة الرئيس عبدو ضيوف، الذي سقط في انتخابات سنة 2000.
ورغم أن واد تيجاني في الأصل، فإنه أعلن بعد وصوله إلى السلطة انتماءه للطريقة المريدية، وأظهر مستويات عالية من الولاء لخلافة الطريقة التي تسيطر على القرار الديني والسياسي لأكثر من 4 ملايين سنغالي بشكل مباشر.
لكن ذلك لم ينقذ الرجل من الهزيمة بعد أن أعلن الخليفة حياده في المشهد السياسي، وأدى ذلك إلى صعود ماكي سال إلى الرئاسة في العام 2012، بادئا عهده الرئاسي بمحاولة أخذ مسافة من تأثير المشايخ والزعامات الصوفية، قبل أن يعود في السنوات الأخيرة إلى التقرب إليهم بشكل كبير، ومنحهم الامتيازات التي كانت بأيديهم.
ولا يرفع المشايخ في السنغال سقف المطالب السياسية، حيث يدينون بولاء تام للنظام الجمهوري العلماني في السنغال، ويحصرون مطالبهم الدينية في تسيير يوميات العلاقة بين المريدين والمشايخ والمؤسسات المعبرة عنهم.
ومع ذلك بدأت تظهر بعض محاولات الخروج على “النص الهادئ” حيث تقيم دائرة “المسترشدين والمسترشدات” التيجانية بنية تنظيمية متكاملة تضم جمعيات مدنية وحزبا سياسيا، وتشارك في الانتخابات، ولكن دون تحقيق نتائج انتخابية ذات قيمة حتى الآن.
وعند اشتداد الأزمات السياسية أو حلول المواسم الانتخابية، فإن أصوات أتباع الطرق الصوفية تكون دائما ذات أثر فعال في حسم من يتوقع أن يصل إلى الحكم في بلد ترسم معالمه العلمانية والصوفية والفستق.