أفريقيا التي تتغير
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، اضطرت موسكو إلى تقليص طموحاتها في أفريقيا، فخفت حضورها بشكل كبير مقارنة بالقوى الكبرى، ولم تكن لها الإمكانات الاقتصادية مثل الصين لإعادة التمركز، وفقدت تقريبا نفوذها في أفريقيا جنوب الصحراء، بينما حافظت على التعاون العسكري والسياسي مع دول شمال القارة، مثل الجزائر وليبيا.
وتدريجيا بدأت روسيا في استعادة حضورها الأفريقي، فحسب تقرير البرلمان الأوروبي (فبراير/شباط 2024)، وقّعت اتفاقيات تعاون عسكري مع 43 دولة أفريقية منذ عام 2015. وتشمل هذه الاتفاقيات توريد الأسلحة والمعدات، مع بعض التدريب العسكري، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وغير ذلك من أشكال التعاون.
ووفق التقرير، كانت روسيا أيضا أكبر مصدرللأسلحة إلى أفريقيا بين عامي 2018 و2022، حيث استحوذت على 40% من واردات القارة من الأسلحة، لكنها بدأت تلقى منافسة من بلدان مثل الصين وتركيا في هذا المجال.
ولا تشارك روسيا إلا بنسبة 1% من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في أفريقيا، لكن المبادلات التجارية تطورت بنسبة 45% لتصل إلى 22.8 مليار دولار خلال الأشهر 11 الأولى من عام 2023، لكنها مع ذلك تبقى ضعيفة مقارنة بالاتحاد الأوروبي (295 مليار دولار) والصين (254 مليار دولار) والولايات المتحدة (65 مليار دولار)، وفق تقرير مركز الدراسات الإستراتيجية لأفريقيا.
بالإضافة إلى الجانب العسكري والسلاح، تمتلك روسيا أيضا دعائم قوة جاذبة للدول الأفريقية، فهي مصدر رئيسي للقمح والذرة ولمشاريع الطاقة النووية، كما أن شراكاتها ونشاطاتها لا ترتبط بقيود سياسية أو حقوقية، ما يجعلها عنصر جذب لدول ملّت الاشتراطات الغربية أو لأنظمة لم تستفد من الغرب.
ومكّنت التحولاتُ الجيوسياسية وتصدعُ النفوذ الغربي في القارة وانتشار حركات التمرد -التي لم تنجح فرنسا في إخمادها- والانقلاباتُ العسكرية المناهضة للوجود الغربي روسيا من تحقيق اختراق سياسي ثم ميداني على الأرض جاء عبر مجموعة فاغنر.
ومن الواضح أن أفريقيا لم تعد مجالا جيوسياسيا غربيا وبتبعية مطلقة لفرنسا والولايات المتحدة، فقد كان لافتا قبل ذلك أن معظم الدول الأفريقية امتنعت عن إدانة غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022 أثناء التصويت في الأمم المتحدة رغم الضغوط الأميركية، وإن لم تدعمه أيضا.
وتلقى الطروحات الروسية بالدفاع عن نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب اهتماما وقبولا لدى عدة دول أفريقية، ترى أن الوجود الروسي -وكذلك الصيني أوالتركي- يعزز سيادتها، بينما يعتقد العديد من القادة الأفارقة أن الغرب “أهمل أفريقيا في الأوقات الصعبة”.
وفي عام 2020، أثارت مشاكل توزيع لقاح كوفيد-19 “غير العادلة” وتضرر الدول الأفريقية بشكل كبير من الوباء، ثم تدفق المساعدات الغربية غير المسبوق إلى أوكرانيا بمستويات لم تمنح للدول الأفريقية نفسها مجتمعة خلال عقود، أثارت تذمرا واسعا في أفريقيا ومراجعات رسمية وشعبية، جعلت البوصلة تتجه -بشكل أو بآخر- نحو الرؤية الروسية والصينية للعالم.
وتحركت موسكو بفعالية لإحياء علاقاتها الأفريقية، وأطلقت قمة روسيا وأفريقيا في عام 2019، وعُقدت القمة مرة أخرى في عام 2023 وشهدت حضورا وازنا من القادة الأفارقة، وهي بذلك تراوح بين الدبلوماسية الكلاسيكية والعمل الموازي -عبر شركة فاغنر بأذرعها العسكرية والاقتصادية والإعلامية- الذي أثبت فعاليته في السنوات السابقة.
تحديات ما بعد فاغنر
استثمرت روسيا في مجموعة فاغنر لإعادة تشكيل نفوذها في أفريقيا دون صخب، ونجحت في ضبطها بعد تمرد زعيمها بريغوجين، ثم إعادة هيكلتها دون خسائر تذكر في مواقعها ونشاطاتها وتوزعها الجغرافي في القارة.
ومع ذلك، تواجه روسيا تحديا رئيسيا يتمثل في صعوبة بناء “فيلق أفريقيا” بعدد هائل من المتطوعين نظرا لصعوبة نشر جيش نظامي ونشره على مساحة واسعة، والقدرةِ على تحقيق وعودها للدول الأفريقية -أو أنظمتها الموالية- بالقضاء على حركات التمرد والجماعات المسلحة التي فشلت فرنسا والولايات المتحدة في القضاء عليها.
وتمثل الصراعات في أفريقيا -التي كانت بوابة دخول فاغنر- بيئة أمنية معقدة للغاية ومتشابكة. وتواجه القوات الروسية الموجودة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وغيرها اتهامات غربية بارتكاب “مجازر بشعة”.
وبات الوجود الروسي في أفريقيا يتعرض لبروباغاندا معاكسة، مما قد يعرضها لغضب شعبي ورسمي وحملات إعلامية مضادة، خصوصا إذا فشلت مهمة محاربة الجماعات المسلحة المرتبطة بدورها بشبكات تهريب وتنقيب عن الذهب والسيطرة على المناجم والثروات ومصالح دولية وإقليمية.
وتركز التقارير الغربية على أن الوجود الروسي يقوض التطلعات الديمقراطية في أفريقيا، ويؤدي إلى تأجيج الصراعات، وينتهك حقوق الإنسان، ويحفز عسكرة الحكم على نحو متزايد، كما أنه يستهدف بالأساس نهب الثروات.
وبالإضافة إلى ذلك، تواجه المساعي الروسية بالتمركز على الحدود بين مالي والنيجر، وكذلك على الحدود بين ليبيا والجزائر، عبر عناصر فاغنر أو فيلق أفريقيا شكوكا وهواجس من الجزائر، مما أدى إلى برود سياسي بين الدولتين الحليفتين، لا سيما بعدما قرر المجلس العسكري في مالي إنهاء اتفاق الجزائر للسلام لعام 2015 بين حكومة مالي والجماعات المسلحة، الذي توسطت فيه الجزائر.
وفي السنوات السابقة، كفل عمل مجموعة فاغنر غير الرسمي لروسيا تحركا في الظل وتحقيق مكاسب بحد أدنى من إنكار المسؤولية أحيانا، لكن فيلق أفريقيا يُعد كشفا لأوراق روسيا بشكل علني، وهو ما سيطرح مخاطر وإشكالات في ضبط آليات عمله وعلاقاته وتدخلاته وموازنته التي كانت توفرها فاغنر بشكل مستقل.
وحتى في صورة ما إذا تمكّن الفيلق الأفريقي من تحقيق اختراق مرحلي عبر الوجود في العديد من دول الساحل، فإن ذلك لا يعني بالضرورة كسب معركة البقاء والاستقرار، فالمنطقة بمشاكلها وازماتها تبقى مقبلة على تحولات وتقلبات، ومن الصعب أن تستسلم واشنطن أو باريس وتتخلى عن مناطق نفوذ تقليدية ومركز للثروات.
كما سييؤدي النفوذ الروسي المتزايد، خصوصا العسكري منه، إلى حالة من القلق والريبة ثم الشكوك ورد الفعل من قوى اخرى باتت تتنافس بقوة في أفريقيا مثل الصين وتركيا، ويمكن ملاحظة المحاولات الأوكرانية لزعزعة النفوذ الروسي في بعض البلدان الأفريقية.
ويرتبط استقرار الوجود الروسي في أفريقيا -العسكري خصوصا- وتمدده بقوةِ روسيا نفسها، التي تعاني مؤخرا في حربها مع أوكرانيا. وإذ كان من المرجح أن يشهد نموا بطيئا على المدى القصير، لكنه سيبقى محكوما بعدم الاستقرار، نظرا لظروف روسيا نفسها عسكريا واقتصاديا، وضعف قدرتها على إمداد الدول الأفريقية الحليفة بالسلاح والمقاتلين والمساعدات، الاقتصادية والأهم من ذلك تحسين ظروف تلك البلدان الأمنية والمعيشية والاجتماعية.
كما أن الضغوط الغربية ستتكثف على دول القارة خصوصا عبر المساعدات الاقتصادية وسلاح العقوبات، الذي تعاني منه روسيا نفسها، ومنع المساعدات الإنمائية لإضعاف الوجود الروسي وتقويضه تدريجيا.
ومع حالة الاضطراب الهشاشة المزمنة التي تعاني منها هذه الدول، يصعب عليها إقامة تحالفات طويلة الأجل وغير مثمرة، وبالمحصلة قد تأتي حالات من السخط الشعبي وانقلابات عسكرية أخرى تطيح حلفاء روسيا كما أطاحت حلفاء فرنسا سابقا، وبذلك تكون روسيا قد تسرعت وجازفت بمشروع “الفيلق الأفريقي”.