رغم أن الصين والهند قد جمعتهما المشاركة في تأسيس مجموعة “بريكس” (BRICS)، عام 2009، والتي يُنظر لها منذ ذلك التاريخ بوصفها تحالفا يسعى لكسر الهيمنة الأميركية والغربية وتحقيق التعددية في بنية النظام العالمي سياسيا واقتصاديا، فإن ذلك لم يضع حدا لتاريخ طويل من العلاقات المتوترة بين البلدين اللتين يسكنهما حوالي 35% من سكان العالم.
فثمة صراع جيوسياسي محتدم يدور بين البلدين على النفوذ في جنوب آسيا، حتى بات سؤال التقارب مع الصين أو الهند يرسم أهم خطوط التنافس السياسي الداخلي في دول المنطقة، ويجعلها محل تجاذب واستقطاب بين البلدين الكبيرين ومشروعاتهما السياسية والأمنية. فضلا عن نزاع حدودي استمر منذ ستينيات القرن الماضي، وصل إلى حد التصادم العسكري بين البلدين في عدة محطات، وظل طوال هذه العقود يهدد دائما بإمكانية نشوب حرب واسعة بينهما. ولكن مؤخرا، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلن البلدان بشكل متزامن عن اتفاق لحل أزمة النزاع الحدودي.
جاء هذا الاتفاق قبل وقت قليل من دخول الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، للبيت الأبيض، المرتقب في 20 يناير/كانون الثاني الجاري، وفي ظل تعهداته بفرض تعريفات جمركية ضخمة تصل إلى 60% على واردات السلع الصينية لبلاده منذرا بحرب تجارية طاحنة بين البلدين في عهده الجديد.
ومع هذه الحرب التجارية المنتظرة ربما يكون توجه الصين لتحسين علاقاتها مع الهند مبررا في إطار سعيها لتأمين أسواق مستقرة مفتوحة لسلعها في سنوات ترامب القادمة، لا سيما أن الصين تُعد الشريك التجاري الأول للهند، حيث بلغت قيمة التجارة الثنائية بينهما 118.4 مليار دولار عام 2023.
وإذا كان هذا هو الدافع الأساسي للصين؛ فلماذا بادرت الهند أيضا بإقرار الاتفاق في هذا التوقيت، رغم إمكانية الانتظار حتى يأتي دونالد ترامب ويضيق الخناق على الصين فتزداد التنازلات الممكنة؟ وهل يمكن أن يؤدي الاتفاق إلى ما هو أبعد من مجرد التقارب المبدئي ويصل إلى مراحل أخرى من تطوير العلاقات في المستقبل؟ وليس ثمة شك في أن إجابة تلك الأسئلة ستكون بالغة الأهمية في فهم ماذا يمكن أن تنطوي عليه السنوات القادمة من تحولات في علاقات القوى الكبرى في العالم.
أطول حدود متنازع عليها في العالم!
شهد أغسطس/آب 2023، حدثا جوهريا في مسار النزاع الحدودي بين البلدين، حيث أصدرت الصين نسختها من خريطتها القياسية في هذا العام، وقد ظهرت فيها منطقة أكساي تشين وولاية أروناتشال براديش، الغنية بالموارد الواقعة شمال شرق الهند، بضمن حدود الصين، وهو الأمر الذي احتجت عليه الهند بشدة.
ويرجع تاريخ النزاع على المنطقة إلى عام 1959، حين اقترحت الصين إقامة خط حدودي يُطلَق عليه “خط السيطرة الفعلية”، باعتباره آلية مؤقتة لتسوية الخلاف الحدودي بين الدولتين، لكن ومع مضي 7 عقود لم يجر ترسيم الحدود الصينية الهندية في ظل اختلاف موقف الدولتين بشأن تحديد مكانها وطولها.
حيث تسيطر الصين على 38 ألف كيلومتر مربع من منطقة أكساي تشين، التي تزعم الهند أنها جزء من إقليم لاداخ التابع لها، بينما تصر الصين أنها كانت جزءا من الإمبراطورية الصينية القديمة. كما تقول الصين إن 90 ألف كيلومتر مربع من الأراضي التي تقع حاليا في ولاية “أروناتشال براديش” الهندية هي جزء من التبت، لتكون تلك المنطقة بمثابة أطول حدود متنازع عليها في العالم، بحسب وصف مجموعة الأزمات الدولية.
وقد تسبب هذا النزاع الحدودي في توترات وصلت إلى حد اندلاع الحرب بين البلدين في ستينيات القرن الـ20، وخلال العقد الأخير تكررت المناوشات المسلحة في المنطقة الحدودية في أعوام 2013 و2014 و2017 و2021 و2020 و2022. كان أخطرها ما حدث في منطقة لاداخ في عام 2020، إذ أسفرت الاشتباكات عن مقتل 20 هنديا و4 صينيين، كما أدت إلى حدوث انتكاسة كبيرة في العلاقات بين الدولتين، فقيدت الهند تدفق الاستثمارات الصينية، وحظرت في بلادها أكثر من 250 تطبيقا طورته شركات صينية، ورفعت الضرائب بشكل كبير على شركات الاتصالات الصينية، وطردت الصحافيين الصينيين، وقد ردّت الصين بالمثل، وجرى تعليق الرحلات الجوية المباشرة للركاب بين البلدين.
وقد حدث هذا على الرغم من أن البلدين كانا قد اتفقا عام 1988 على التفاوض لإنهاء النزاع بالطرق السلمية وفصل هذه القضية عن العلاقات الثنائية بينهما، ولكن استمرت الدوريات التي يقوم بها كلا الجيشين فيما يرى أنها مناطق تابعة له تؤدي إلى مناوشات متكررة، كما أن صعود الصين الكبير خاصة مع مطلع القرن الـ21 قد لعب دوره في تشجيعها على ممارسة ما تعتقد أنه سيادتها بشكل أوضح في تلك المناطق.
لكن شيئا ما قد تغير بشدة في الشهور الأخيرة، لينتج عنه انفراجة وتطور ملحوظ في العلاقات السياسية بين البلدين، فجاء اتفاق أكتوبر/تشرين الأول ليمنح الهند القدرة مرة أخرى على تسيير دورياتها على طول الحدود المتنازع عليها، ضمن دوريات مشتركة من البلدين، وستنسحب على إثر ذلك آلاف القوات الهندية والصينية المنتشرة في مواقع متقدمة على الحدود، ومن ثم يعود المشهد إلى ما كان عليه قبل نزاع عام 2020.
إضافة إلى هذا؛ كان الاجتماع الودي الثنائي الذي جمع بين رئيس وزراء الهند، ناريندرا مودي، والرئيس الصيني، شي جين بينغ، لأول مرة منذ 5 سنوات، أثناء انعقاد قمة البريكس في قازان بروسيا بعد يومين من الاتفاق. وقد قال مودي على حسابه على موقع “إكس” بعد الاجتماع إن العلاقات بين الصين والهند مهمة لشعبي البلدين ولتحقيق السلام والاستقرار الإقليمي والعالمي، وإن الثقة المتبادلة والاحترام المتبادل سيوجهان العلاقات الثنائية بين البلدين، وقد دفع هذا الاجتماع صحيفة الإيكونوميست البريطانية للتعقيب عليه بالقول إن “شي جين بينغ ومودي قد أصبحا صديقين”.
وإن كان واقع الأمر يفيد بأن كلمة صديقين كانت أكبر مما حدث، فإن الدولتين على الأقل قد وجدتا طريقا مبدئيا لتحسين علاقتيهما.
وسرعان ما بدأ المسؤولون الصينيون يعربون أيضا عن أمنياتهم في أن يصلح الاتفاق سريعا ما تضرر في السنوات الماضية، بحيث تُستأنف الرحلات الجوية المباشرة بين البلدين، وتُخفَّف القيود المفروضة على تأشيرات المواطنين الصينيين المسافرين للهند، وأن يُرفع الحظر المفروض على التطبيقات الصينية، وتعود العلاقات الثقافية ويعود الصحافيون الصينيون للعمل في الهند.
ومع ذلك؛ فإن هذا الاتفاق لا يُرجح أن يؤدي للتوصل إلى حل نهائي للأزمة الحدودية التي بلغت عمرا مديدا، وإنما أقصى ما يمكن أن يؤدي إليه هو سحب الصراع عدة سنوات للوراء ليعود إلى ما قبل اندلاع أزمة عام 2020.
دوافع متباينة
بالنسبة للصين؛ فإن دوافع الإسراع في الاتفاق تبدو مُتفهمة تماما. حيث تمثل الصادرات الصينية المتجهة للولايات المتحدة الأميركية حوالي 15% من إجمالي الصادرات الصينية بحسب بيانات عام 2023 وفقا لـ”يورو نيوز”، وفي ظل وعود ترامب بفرض التعريفات الجمركية فإن حصيلة هذه الصادرات مهددة تماما بالتوقف، ولذا يبدو أن الصين تهيئ لنفسها أسواقا أخرى بديلة، وفي سبيل ذلك تسعى لتهدئة صراعاتها الأقل أولوية حتى تستعد لمواجهة الحرب التجارية الأميركية المحتملة.
وفي سياق أوسع؛ فإن الاقتصاد الصيني الذي لا يزال يعاني من تداعيات أزمة فيروس كورونا بات في وضع يجعله في أمسّ الحاجة للأسواق وفرص الاستثمار الجديدة، إذ يواجه عدة مشكلات معقدة ومزمنة أبرزها تباطؤ الاقتصاد المحلي وانهيار أسعار العقارات في السنوات الأخيرة، بالإضافة لمشكلة القيود المفروضة على السلع الصينية في الغرب، بحسب شركة النشرات الاستخبارية الدولية “جيوبوليتكال مونيتور”.
أما من جانب الهند؛ فإن دوافعها المحتملة متنوعة ولكن يعود أغلبها إلى “الاقتصاد” أيضا، فالحدود المستقرة وتحييد جبهة الصين، ولو مؤقتا، سيعطي للهند الفرصة لتكثيف جهودها على مواجهة تحدياتها الاقتصادية. وبحسب مجلة فورين بوليسي الأميركية؛ فإن الهند تحتاج بشدة إلى المنتجات الصينية مثل المعادن والمكونات الصيدلانية والآلات والأجهزة الكهربائية، إذ تعد الصين أكبر مصدر للسلع الصناعية والمواد الخام للهند.
وقد ظهرت مؤشرات تفيد بأن مجتمع رجال الأعمال الهندي ومنهم على سبيل المثال تكتل الشركات الهندية متعددة الجنسيات (مجموعة أداني)، كان قد مارس ضغوطا هائلة على مودي لدفعه للتصالح مع الصين، وما يتبع ذلك من رفع القيود التي فُرضت بعد نزاع عام 2020 على الاستثمارات والتأشيرات، فالشركات الهندية وخاصة العاملة في القطاعات التي تعتمد على التكنولوجيا الصينية تنظر دائما للاستثمارات والشراكات الصينية باعتبارها ضرورية لتوسيع القطاع التصنيعي في الهند.
وهنا تكمن المفارقة؛ إذ إن جزءا من مجتمع الأعمال الهندي يحتاج للعلاقات الاقتصادية القوية مع الصين كي يوفر الوسائل اللازمة لتوسيع أعماله التي سوف تؤهله فيما بعد لاستغلال الحرب التجارية المتوقعة ضد الصين من جانب الولايات المتحدة الأميركية، فيحتل هو الموقع الشاغر المتوقع أن تتركه السلع الصينية بعد رفع التعريفات الجمركية على الصين، في حين تحتاج الصين للعلاقات القوية مع الهند لتوفير سوق آمن لمنتجاتها أثناء الحرب التجارية المتوقعة، في حين يبدو أنه فرصة لكلا الطرفين ولكن في الوقت نفسه محفوفة بالمخاطر.
وإلى جانب الاقتصاد؛ يبدو أيضا أن رئيس الوزراء مودي يسعى لتسويق الاتفاق سياسيا باعتباره انتصارا تاريخيا يحافظ على الحدود الوطنية ويعيد للهند ممارسة مظاهر السيادة على أراضٍ كانت قد حُرمت منها في السنوات الأخيرة، خاصة أن مودي كان يُتهم من طرف المعارضة كثيرا في السنوات الأخيرة بالتفريط في تلك الأراضي لصالح الصين.
هل سيصمد التقارب بين الصين والهند؟
بحسب معهد بروكينغز الأميركي، فإن الخطابات التي صدرت عن الطرفين بعد التوصل لاتفاق الحدود توضح مدى اختلاف أولويات الصين والهند وتضارب أهدافهما من التصالح والتقارب، فالشيء الوحيد الذي اتفقت عليه بياناتهما، بحسب المعهد، كان فقط تأكيد التوصل لاتفاق بشأن الحدود، أما دلالات الاتفاق وما يمكن أن يُبنى عليه في المستقبل فقد كان محل تباين بينهما.
فقد كانت الخطابات الصادرة عن الهند تؤكد على ضرورة تتويج الاتفاق باتفاق آخر نهائي بشأن الحدود واعتبار أن الالتزام بالاتفاق الجاري هو الأولوية القصوى التي يمكن أن يليها تعاون أوسع مع الصين، في المقابل ركزت الصين في خطاباتها على أن التعاون الواسع مع الهند لا يجب أن تعيقه مسألة الحدود، وأنه “لا ينبغي للخلافات المحدودة أن تعرقل العلاقة الأوسع”.
وثمة اختلاف آخر كبير في إبراز مدى التنسيق السياسي بين البلدين، ففي حين أشارت الهند إلى أن الزعيمين الصيني والهندي قد اتفقا في اجتماعهما على أن العلاقات المستقرة والودية بين بلديهما ستساهم في ترسيخ “عالم متعدد الأقطاب وآسيا متعددة الأقطاب”، تجاهلت الصين عبارة “آسيا متعددة الأقطاب” وذكرت فقط اتفاقهما على ترسيخ “عالم متعدد الأقطاب”، ويمثل هذا واحدا من المشاكل الكبيرة التي تشوب علاقة البلدين، وتسهم في تضارب المصالح على المدى البعيد في الكثير من الأحيان، حيث تُظهر الصين رغبة واضحة في أن تصبح هي وحدها القطب المهيمن في آسيا، وهو ما لا ترضاه الهند.
ويبدو أن المعطيات بالنسبة لصانع القرار الهندي تحمل الكثير من التناقضات في داخلها، فمن ناحية تتخوف الهند بشدة من الطموحات السياسية الصينية في آسيا وتزايد نفوذها في جنوب آسيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادي بالإضافة إلى علاقة الصين شديدة المتانة بباكستان التي وصلت بحسب تعبير أحد المسؤولين الصينيين إلى وصف باكستان باعتبارها بالنسبة للصين أشبه بإسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية بحسب مجلة “فورين أفيرز”، كما أن الكثير من المحللين في الهند ينتظرون أن تتربح بلادهم من وراء الحرب التجارية التي سيشنها ترامب في حين يصعد للسلطة، لكن من ناحية أخرى يضغط مجتمع رجال الأعمال في الهند على مودي من أجل التقارب مع الصين للاستفادة من التكنولوجيا والاستثمارات الصينية.
وثمة جانب آخر لا يمكن تجاهله، وهو أن الرؤية الهندية للمستقبل مع ترامب يشوبها بعض من عدم التفاؤل، فذكريات الهند مع ترامب في المرة الأولى لم تكن خالية من الأضرار التي لحقت بالاقتصاد الهندي بسبب سياساته الاقتصادية، إذ كان سجله حافلا بالاحتكاكات التجارية مع نيودلهي بحسب تعبير مجمع تفكير “لوي إنستيتيوت” بسيدني.
وفي عام 2019 فرض ترامب تعريفات جمركية على الصلب والألومنيوم القادمين من الهند، وألغى المعاملة التفضيلية للهند التي استمرت لعقود بمسوغ أن الهند لم توفر إمكانية الدخول الأميركي لأسواقها بشكل منصف ومعقول، ومن ثم فالهند تنتظر ترامب بعين آملة في الاستفادة من التعريفات على الصين من جهة وعين أخرى متخوفة مما يمكن أن يفعله ترامب هذه المرة مع الهند ذاتها، والذي قد يتضمن الضغط على نيودلهي بقوة لصالح شركات التكنولوجيا الأميركية وهذا يجعلها تفكر في أن حل مشاكلها مع الصين ربما يجعلها في موقف أفضل في حال اضطرت لمواجهة سياسة اقتصادية عدوانية من ترامب.
وعلى جانب آخر، تشير العديد من التحليلات الاقتصادية إلى أن ما ستكسبه الهند من التعريفات الجمركية الضخمة المتوقع فرضها على الصين ربما ستصبح مكاسب قصيرة المدى في حال سمحت الصين بإضعاف قيمة اليوان بشكل كبير أمام الدولار، فضلا عن إمكانية أن يصل ترامب والصين إلى صفقة ما بينهما.
وما يزيد الصورة تعقيدا هو ارتفاع تكاليف المعيشة في الهند مؤخرا بصورة كبيرة، حيث إن التغيرات المناخية قد أدت إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية لمستويات غير مسبوقة، وهذا يزيد الضغوط على الطبقات الفقيرة، التي يُتهم مودي دائما بأنه أهملها لصالح نخبة رجال الأعمال.
في نهاية المطاف، تبدو الصين واضحة بشأن أهدافها فهي تريد تعظيم تعاونها الاقتصادي مع الهند كي تستعد لحرب ترامب التجارية المنتظرة وتريد أن تنحي الخلافات السياسية بعيدا عن عرقلة التعاون الاقتصادي مع نيودلهي، ولكن على الجانب الآخر يبدو أن المعطيات على طاولة صانع القرار في الهند متناقضة بشكل محير. ومن ثم فإن الوجهة النهائية لمحاولات التقارب بين نيودلهي وبكين ستتدخل في حسمها الكثير من العوامل التي ستتشكل خلال الأشهر القادمة، وعلى رأسها الطريقة التي سيتعامل بها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب مع نيودلهي.