تقول الحكومة الفرنسية إنها تخوض “معركة وطنية” ضد تجارة المخدرات والجريمة المنظمة، وهي في تقدير وزير الداخلية برونو ريتايو معركة لا تقل أهمية عن مكافحة الإرهاب والتطرف.

لكن يبدو أن الجبهة الرئيسية للحرب التي تخوضها السلطات في فرنسا ضد جرائم المخدرات ليست في تعقب عمليات التهريب بالأحياء الفقيرة أو في الموانئ أو على امتداد سلاسل التوزيع المخفية، بل تكمن في مكافحة أنشطة الموقوفين داخل السجون نفسها.

وبيّن تقرير نشرته صحيفة “لوموند” استنادا إلى معلومات من استخبارات السجون كيف يعمد السجناء إلى تحدي أنظمة المراقبة والتحايل التكنولوجي للالتفاف على الإجراءات التقييدية داخل السجن من أجل الاستمرار في إدارة أنشطتهم غير القانونية عن بعد، والفضل في ذلك يعود إلى استخدامهم المكثف للهواتف الذكية.

وعلى سبيل المثال، مكنت عمليات تنصت أجريت في الفترة بين يوليو/تموز 2023 ومارس/آذار 2024 -وفق المحققين- من رفع النقاب عن عمليات تهريب وبيع يديرها أحد أخطر المحكومين في قضايا المخدرات بفرنسا محمد عمرا المعروف بلقب “الذبابة” من داخل زنزانته في سجن إيفرو بباريس.

وأظهر المحققون كيف مكنت الهواتف الذكية -التي يتم تسريبها إلى داخل السجون- “الذبابة” وغيره من رجال العصابات من قيادة مسارات تهريب المخدرات عن بعد وتوجيه مساعديهم المدججين بالأسلحة الأوتوماتيكية، وكيفية تفادي نقاط التفتيش عبر تطبيقات تسمح لهم بتضليل الحواجز الأمنية.

وتعد عملية تهريب “الذبابة” إثر كمين نصبه مسلحون لسيارة تابعة للسجن أسفر عن مقتل اثنين من الحراس في 14 مايو/أيار 2024 إحدى أشهر عمليات التنسيق عن بعد التي لعبت فيها الهواتف الذكية دورا محوريا، ومكنت المهاجمين من تنفيذ خططهم والقفز على كل الحواجز الأمنية ببراعة وجرأة كبيرة.

محمد عمرا تمكن مسلحون من تهريبه من السجن في فرنسا بعملية منسقة باستخدام الهواتف الذكية (الفرنسية)

اقتصاد موازٍ

وبحسب أرقام نشرتها صحيفة “لوموند”، صادرت الأجهزة الأمنية 637 هاتفا ذكيا من سجن “لا سانتي” وحده في عام 2023، في حين يقدّر عدد الأجهزة المصادرة على المستوى الوطني بنحو 53 ألفا مقابل 40 ألفا في عام 2024.

ومع ذلك، لا تتوفر أرقام دقيقة بشأن العدد الحقيقي للهواتف المستخدمة داخل السجون في فرنسا والبالغ عددها 186، مع تحول الأمر إلى ما يشبه الاقتصاد الموازي في المؤسسة السجنية.

ويعتمد اتحاد السجون على العدد الإجمالي للسجناء (نحو 80 ألفا) في تقدير عدد الهواتف المسربة بنحو 160 ألفا بناء على قاعدة هاتفين لكل سجين.

وتعني الأرقام أن حيازة الهواتف الذكية على الرغم من أنها مخالفة للقوانين فإنها لا تقتصر فقط على كبار المتورطين في الجرائم المنظمة وقضايا المخدرات، ولكنها شائعة على نطاق واسع.

وتخضع عملية الحصول على الهاتف الذكي غالبا -حسب ما كشفت عنه استخبارات السجون- إلى صيغ عديدة، إما بعمليات البيع والشراء أو الإيجار طويل الأمد أو من أجل مكالمة واحدة.

حراس يغلقون بوابة في ممر بسجن دي لا سانتي بباريس (الفرنسية)

ويقول ألكسندر بوكيه مدير سجن أفينيون عضو نقابة الاتحاد الوطني للسجون في فرنسا إن الظاهرة تحولت إلى “آفة” وتجارة حقيقية من شأنها أن تولد العنف بين السجناء، وأن تشكل أيضا أرضية خصبة للفساد في صفوف الضباط.

وقد أوردت صحيفة “لوموند” معلومات عن إيقاف 5 ضباط يعملون في مركز الاحتجاز في أوسني بمدينة فال دواز في 21 يناير/كانون الثاني 2025 للتحقيق في تهم بالفساد، حيث أودع الموقوفون الحبس الاحتياطي لتورطهم في تهريب هواتف إلى داخل السجن عبر طرود غذائية.

وقبل ذلك، في مارس/آذار 2024 وُجهت إلى حراس يعملون في سجن ريو بمدينة سانت-إي-مارن اتهامات بـ”الاتجار بالمخدرات” و”التسليم غير المشروع للأشياء المحتجزة” و”غسيل الأموال” و”الفساد” و”الانتماء إلى عصابة إجرامية”، كما يشتبه في تورطهم بتهريب الحشيش والهواتف الخلوية إلى داخل السجن مقابل عمولات.

وتنقل الصحيفة عن أحد القضاة المحققين “منذ اللحظة التي أصبحت فيها الهواتف غير قابلة للتعقب وأدركنا أنها تسمح للسجناء بمواصلة إدارة شؤونهم عن بعد وإصدار الأوامر بالاغتيالات أصبح الأمر مشكلة أمنية حقيقية”.

التحايل التكنولوجي

بدأت الحكومة الفرنسية في 2019 باتخاذ تدابير تقييدية في السجون، مثل تعميم كابينات الهاتف بجميع الزنازين، ولكن مع السماح باستخدام أرقام محددة دون غيرها.

كما عمدت لاحقا إلى تشغيل أنظمة تشويش في السجون، بدءا بتلك البعيدة عن المراكز الحضرية، وأيضا أنظمة مكافحة الطائرات المسيرة التي تستخدم لتهريب الهواتف الذكية والحشيش.

لكن على الرغم من تلك الخطوات فإن الأرقام والمؤشرات لم يطرأ عليها تراجع بعد 6 سنوات، ويُعزى ذلك جزئيا إلى أن أنظمة التشويش تم استخدامها بشكل متأخر، فمع بداية تشغيلها في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 أحدثت احتجاجات وعمليات تمرد داخل عدد من السجون ومراكز الاحتجاز، مثل “ليل-سيكيدين” و”تاراسكون” بمدينة بوش دو رون، و”دراغينيان” في مدينة فار، مما اضطر الإدارة إلى فرض عقوبات وطلب تعزيزات بهدف إعادة الوضع إلى طبيعته، وفق ما ذكرته نقابة الاتحاد الوطني للسجون.

ويعترف المتحدث باسم النقابة بانوا نورمان بأن السجناء كانوا دائما يملكون خطوة متقدمة على الإدارة عبر استنباط الحيل التكنولوجية، إذ بدؤوا باستخدام أجهزة تضخيم التردد اللاسلكي للتحايل على أنظمة التشويش، مما يجعل الأمر -في تقديره- أشبه بسباق نحو القاع.

ورغم أن أنظمة التشويش نجحت في أن تكون أكثر فاعلية في بعض السجون -ومنها سجن “بوميت” في مرسيليا حيث تمكنت الإدارة من إحباط أي محاولة للاتصال من داخل السجن لمدة تناهز العام- فإن السجناء نجحوا بعد ذلك في الالتفاف على هذا النظام.

ووفقا لنورمان، اضطرت إدارة السجن إلى الحد من فاعلية النظام بناء على شكوى من سكان الحي المحيط به، والذين تضرروا أيضا من أنظمة التشويش على الاتصالات اللاسلكية.

لكن عند التعديل أظهر نظام التشويش فاعلية أكبر مع مشتركي مشغّل “إس إف آر”، في حين كانت القيود أقل مع المشغّل الفرنسي “أورانج”، الأمر الذي دفع السجناء إلى التوجه بالكامل نحو “أورانج” لتفادي التشويش العالي.

ولتفادي هذه الثغرة اقتنت إدارة السجن 110 أجهزة تشويش متحركة، مع طلب 50 جهازا آخر إضافيا، بهدف نصبها في محيط الزنازين المنفلتة من أنظمة التشويش الثابتة.

لكن، ساهم هذا القرار في ارتفاع تكلفة حراسة السجون بنسبة تعادل 8% في 2024، بواقع 83.7 مليون يورو حسب نقابة الاتحاد الوطني للسجون، بسبب المشتريات لأنظمة التشويش وأنظمة مكافحة الطائرات المسيرة.

مهمة مستحيلة

وتقول صحيفة “لوموند” إنه على الرغم من هذه الإنفاقات فإن تدفق الهواتف داخل السجون لا يتوقف، إذ يتم استغلال كل البضائع وتوظيف الزائرين لإيصال تلك الأجهزة إلى السجناء.

وذكرت الصحيفة أنه في 3 يناير/كانون الثاني 2025 تم فتح تحقيق في سجن “فريسنيس” بمدينة فال دي مارن بعد الكشف عن تهريب 45 هاتف آيفون وكيلوغرام من الحشيش مخبأة في صناديق الجبن المبشور.

ونقلت عن أحد القضاة قوله “إن الإجراء الأكثر فاعلية يتمثل في زيادة عدد عمليات تفتيش السجناء والزائرين، ولكن عندما نعلم أن ما يقارب 100 ألف شخص يدخلون ويخرجون من السجون الفرنسية كل يوم فإن المهمة تصبح شبه مستحيلة”.

وبالإضافة إلى ذلك تشكو النقابات من نقص في الموارد البشرية، ففي سجن “بوميت” -على سبيل المثال- يقدّر النقص بنحو 50 وظيفة من إجمالي 475 شخصا يعملون في المؤسسة السجنية، وينطبق الأمر ذاته على مركز الاحتجاز المؤقت في “ليل- سيكيدين”.

وفي ظل أزمة الموازنة لم تعلن الحكومة عن عمليات توظيف جديدة في 2025 من أجل تعزيز الأمن في المؤسسات السجنية.

تبنت الحكومة الفرنسية مؤخرا تشييد سجون غير قابلة للاختراق وتحويل السجناء الخطيرين إليها (رويترز)

سجون غير قابلة للاختراق

ومن بين الحلول التي تبنتها الحكومة الفرنسية لتشديد الخناق على زعماء المافيا والجريمة المنظمة وقضايا المخدرات تشييد سجون غير قابلة للاختراق ومجهزة بأعلى معايير الحراسة الممكنة، مع حظر كامل لتهريب الهواتف الذكية وبقية الممنوعات.

وحسب وزارة العدل الفرنسية، فقد تم الانتهاء في يناير/كانون الثاني 2025 من بناء أول سجن محصن بتكلفة ناهزت 4 ملايين يورو، ومن المتوقع أن يبدأ استخدامه في يوليو/تموز من العام الجاري.

وستكون مهمة هذا السجن -الذي لم تكشف الحكومة عن موقع بنائه- استقبال نحو 100 سجين من بين الأخطر في قضايا المخدرات وعزلهم بشكل كامل خلال فترة قضائهم عقوبتهم أو مدة إيقافهم أو فترة التحقيق معهم، وفق لوزير العدل جيرالد دارمانان.

وتعود أسباب بناء هذا السجن جزئيا إلى حادثة تحرير السجين محمد عمرا، وهو يمثل خطوة أولى من بين خطة أوسع لمكافحة تجارة المخدرات، حيث تشمل المرحلة الثانية بناء سجنين آخرين حتى نهاية عام 2028 من أجل استيعاب 600 سجين مصنفين خطيرين لدى أجهزة استخبارات السجون، من بين أكثر من 17 ألف سجين متورطين في قضايا المخدرات والجريمة المنظمة.

وعلى الرغم من بعض النجاحات الأمنية في تعقب عصابات الاتجار بالمخدرات ومصادرة البضائع الممنوعة فإن وزير الداخلية برونو ريتايو يعترف بأن هناك دائما المزيد من شحنات المخدرات التي تتدفق على الأراضي الفرنسية وتنتشر على نطاق واسع في المدن والأرياف.

وتشير الأرقام التي كشف عنها ريتايو إلى أنه في العام 2024 صادرت الأجهزة الأمنية الفرنسية حتى نوفمبر/تشرين الثاني كميات قياسية من مادة الكوكايين وحدها بما يعادل 47 طنا مقابل 23 طنا في عام 2023.

شاركها.
Exit mobile version