طولكرم- تشابهت الظروف بين الاعتقال الأول للأسير الفلسطيني محمد عارف عام 2002 والأخير قبل أسبوع، ففي المرة الأولى عاد حرا بعد 19 عاما من الأسر، بينما استشهد في الثانية في خبر هز عائلته وأعطى مؤشرا خطيرا على استهداف حياة الأسرى بشكل مباشر ومتعمد.
وفي بيان مشترك لهما- تلقت الجزيرة نت نسخة منه- أعلنت هيئة شؤون الأسرى ونادي الأسير الفلسطيني، الأربعاء الماضي، استشهاد الأسير محمد وليد حسين عارف (45 عاما) داخل مشفى “رمبام” الإسرائيلي الذي نقل إليه من مركز تحقيق “الجلمة” الإسرائيلي، دون ذكر تفاصيل حول ظروف استشهاده.
لكنهما لم يسقطا عامل التعذيب كمؤشر واضح على استشهاده باعتباره “أحد أبرز السياسات الممنهجة التي يمارسها الاحتلال ضد المعتقلين الفلسطينيين”.
نية مبيتة
وجاء اعتقال عارف (أبو البراء) بعد عام كامل من المطاردة، وعلِم ذووه بالخبر حينئذ بعد نحو شهرين، فقد ارتقى صديق كان معه آنذاك شهيدا، وظل مصيره بالنسبة لعائلته مجهولا حتى وصل إليهم خبر اعتقاله وخضوعه كل تلك المدة لتحقيق قاس، ومن ثم الحكم عليه بالسجن 19 عاما.
وأعاد الاحتلال اعتقاله في 28 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي “بطريقة لا تقل ترهيبا وعنفا”، وصلت حد إعلان استشهاده بعد أيام فقط، لتفجع أسرته بغياب أبدي لم تتوفر لهم معرفة ظروفه إلا من خبر نعيه شهيدا وأنه يحمل الرقم 48 بين الشهداء الأسرى منذ الحرب على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
يقول شقيقه الأصغر “أسيد” إن الشهيد اعتُقل بعد أن طوقت القوات الخاصة الإسرائيلية بعد منتصف الليل منزلهم بمخيم نور شمس للاجئين الفلسطينيين قرب مدينة طولكرم واستدعته عبر الهاتف ليحضر إليهم على عجل ومعه هاتفه الخلوي وهويته الشخصية فقط، وإنهم اعتقلوه دون أن يودع والديه المسنين ولا طفلته أو أشقاءه، ومعه نجل شقيقه الأكبر.
ويضيف للجزيرة نت أنهم لم يعرفوا أي خبر حول مصيره طوال أسبوع كامل، وأنهم كانوا ينتظرون عقد جلسة محكمة له، أمس الخميس، ليفجعوا بخبر استشهاده الذي وقع عليهم “كالصاعقة”، واتهم الاحتلال “باغتياله وتصفيته بنية مبيتة وبشكل متعمد”.
وأكد أسيد، أن شقيقه الشهيد كان يتمتع بصحة جيدة ولم يكن يعاني أية أمراض، كما أنه ومنذ الإفراج عنه قبل 3 سنوات لم يمارس أي نشاط سياسي أو حزبي، ونفى أية مزاعم سيدعيها الاحتلال حول ظروف استشهاده لاسيما وأنه لا يزال يحتجز جثمانه وسيقوم بتشريحه وفق ما علمت أسرته.
وشدد على أن “حقد الاحتلال على شقيقه واغتياله للفلسطينيين كل يوم ليس غريبا، وهو السبب الحقيقي وراء تصفيته، لكن هذا لن يشكل حالة ردع لأن هناك المئات مثل أبو البراء”.
إعدام مباشر
“الإعدام المباشر” هو ما خلصت إليه أيضا مؤسسات الأسرى -في بيانها- بتأكيدها أن التعذيب أصبح سياسة ممنهجة غير مسبوقة وتفضي إلى قتلهم، خاصة المرضى منهم والذين لم يعد بالإمكان إحصاؤهم، وقالت “الظروف القاسية والمرعبة والكارثية التي يتعرض لها الأسرى وما يكشفونه عقب الإفراج عنهم من شهادات صادمة، تؤشر على أنهم يواجهون خطر الاستشهاد”.
وحسب المصدر نفسه، فإن “محمد عارف هو الشهيد رقم 48 منذ بدء حرب الإبادة في سجون الاحتلال ومعسكراته، وهم فقط من تم الحصول على بياناتهم، وهناك العشرات من معتقلي غزة ارتقوا ويواصل الاحتلال إخفاء بياناتهم”.
وفي حديث سابق للجزيرة نت، أكد عبد الله زغاري رئيس نادي الأسير الفلسطيني أن “الإبادة الجماعية وراء ارتفاع أعداد الأسرى الشهداء، وأن إسرائيل تمارسها ضدهم وخاصة أسرى غزة الذين تخفيهم قسرا”.
بينما قال ثائر شريتح مسؤول الإعلام في هيئة شؤون الأسرى والمحررين -في تصريح صحفي له- إن “الأسير الشهيد محمد عارف تعرض لعملية اغتيال حقيقية ناجمة عن التعذيب والضرب والمعاملة اللاإنسانية من قبل السجانين”.
وفي حي جبل النصر بمخيم نور شمس وُلد الشهيد عارف لأبوين مكافحين وعائلة ملتزمة، وأسرة مكونة من 9 أبناء (5 بنات و4 فتيان) كان هو أوسطهم. ونشأ بين أزقة المخيم وعُرف منذ صغره بانضباطه وسلوكه القويم، فتربى في مسجد “أبو الأرقم” ونهل من علم القرآن وآدابه وحفظ أكثر من 20 جزءا منه، حفظا وتجويدا، وعلّمه أيضا.
أمير الأسرى
وفي مدارس وكالة أونروا بالمخيم، التحق الشهيد بداية وأنهى الثانوية العامة الفرع الأدبي في مدرسة “إحسان سمارة” في طولكرم، وأكمل بعدها دراسته الأكاديمية بجامعة القدس المفتوحة في تخصص المحاسبة الذي أنهاه داخل سجنه، حيث اعتقل في الفصل الأخير، وواصل تعليمه الجامعي فنال شهادة البكالوريوس في التاريخ أيضا داخل معتقله.
وفي سن مبكرة بدأت معاناة الشهيد مع الاحتلال، إذ اعتقل لعدة أشهر وهو ابن 16 عاما قبل اعتقاله الثاني عام 2002 من حي المنشية وسط المخيم، وحكم بالسجن المؤبد الذي استأنفه وحُوّل لـ19 عاما، مع هدم منزل عائلته، وأفرج عنه عام 2021.
وداخل سجنه شغل الشهيد محمد عارف منصب “الأمير العام” وتحمل -بحكم نشاطه وإتقانه اللغة العبرية- مسؤولية قيادة الأسرى، واستطاع رفقة أسرى آخرين تحقيق إنجازات كبيرة لهم. وبعد الإفراج عنه، انشغل برعاية أرض له وابتعد عن العمل السياسي والحزبي، وظل معروفا بشخصيته القيادية والمحبوبة بشكل كبير داخل المخيم وفي عموم طولكرم، وعرف بتأثيره ونشاطه المجتمعي.
ومن بلدة عنبتا القريبة من مخيمه تزوج الشهيد وأنجب طفلته مسك (عامان) وزوجته حامل بطفله براء كما أراد تسميته وتكنّى به سلفا.
وفزعت عائلته وأهالي مخيم نور شمس لاستشهاد الأسير عارف ووصفوا ذلك “بالفقد العظيم”، ونشروا له بوسترات ويافطات وأقاموا “بيت تهنئة” لاستقبال المعزين.