باريس- بعد وصول وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو إلى إسرائيل، الخميس الماضي، من أجل تفعيل خطة بلاده للتوصل إلى حلول تنهي الحرب في قطاع غزة ولبنان، تحولت زيارته الثانية إلى حلقة جديدة من التوترات تُضاف إلى مسلسل العثرات الدبلوماسية بين البلدين.

فقد أدى اعتقال شرطة الاحتلال لاثنين من رجال الدرك الفرنسيين إلى تعطيل زيارة بارو لموقع كنيسة “الإيليونية”، المملوك لباريس منذ القرن الـ19 في جبل الزيتون بالقدس الشرقية التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967.

وبينما يرى مراقبون أن الزيارة لم تحمل أي جديد في ملف الحرب المشتعلة بالمنطقة، اعتبر آخرون أن التصرف الإسرائيلي خلال زيارة فرنسية رفيعة المستوى لن يضاعف سوى تدهور العلاقات بين باريس وتل أبيب.

فشل الزيارة

في تغريدة على منصة إكس، اعتبر وزير الخارجية الفرنسي أن الحلول الدبلوماسية “ممكنة لتحرير المحتجزين وحماية المدنيين وضمان سلامة الجميع. لقد حان الوقت لإنهاء المأساة التي بدأت في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023”.

ويرى المتخصص في السياسة الخارجية جان بيير بيران أن الزيارة كانت تسعى إلى الاسترضاء والتهدئة بين البلدين بعد تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي أعرب فيها عن سخطه على الرد “الهمجي” الذي قدمه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بحجة الدفاع عن الحضارة، “إلا أنه لا يمكن وصفها سوى بالزيارة الفاشلة والكارثية بكل المقاييس”.

وفي حديث للجزيرة نت، يعتقد بيران أن فرص نجاح اقتراح المسؤول الفرنسي بشأن انتخاب رئيس في لبنان قبل المفاوضات ضئيلة للغاية، لأن “التفكير في إمكانية إجراء الانتخابات في هذه الظروف وبينما تتعرض البلاد للقصف باستمرار هو ضرب من الجنون”، على حد قوله.

من جانبه، اعتبر الأكاديمي والباحث في السياسة الدولية بيير لويس ريموند أن الجهد الدبلوماسي يتفاءل أكثر من اللازم في معظم الأحيان، وهو ما دفع حكومة ماكرون إلى محاولة الحفاظ على القدر الأدنى من العلاقات مع حكومة نتنياهو. وأنه بالإضافة إلى ملف المحتجزين، حاول الوزير تفعيل ثوابت أساسية من الدبلوماسية الفرنسية وريثة عهد الجنرال شارل ديغول، بما في ذلك وضع غزة بعد انتهاء الحرب.

وأضاف، للجزيرة نت، أن اهتمام الحكومة الإسرائيلية بمصلحة المستوطنين فقط لا يجعلها تفكر في الدبلوماسية إلا في حال فُرضت عليها من الجهة الخارجية الوحيدة القادرة على الضغط عليها، وهي إدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب التي عملت على خلق اتفاقيات أبراهام، متسائلا: هل يمكن أن تُفعّل المصالح الاقتصادية الحل الدبلوماسي؟

ماكرون يدعو إلى الكف عن توريد الأسلحة لإسرائيل

استفزاز إسرائيلي

وقالت وزارة الخارجية الفرنسية -في بيان لها- إن ضباطا إسرائيليين مسلحين دخلوا الموقع دون تصريح واعتقلوا اثنين من موظفي القنصلية “على الرغم من كونهما يتمتعان بوضع دبلوماسي”، قبل أن يتم إطلاق سراحهما في وقت لاحق بعد تدخل الوزير، مشيرة إلى استدعاء السفير الإسرائيلي في الأيام المقبلة.

وفي تصريحات للصحفيين، أكد بارو -من القدس– أن “هذا الانتهاك لسلامة موقع تحت المسؤولية الفرنسية يهدد بإضعاف العلاقات التي جئت لرعايتها مع إسرائيل في وقت نحتاج فيه جميعا إلى المضي قدما في المنطقة على طريق السلام”.

وفي بيان مقتضب، أوضحت وزارة الخارجية الإسرائيلية أن ما حدث جاء نتيجة شجار بين قوات الأمن الإسرائيلية واثنين من حراس الأمن الفرنسيين “رفضا التعريف عن نفسيهما”.

تعليقا على ذلك، قالت مديرة معهد دراسات العلاقات الدولية والإستراتيجية في باريس ليزلي فارين، للجزيرة نت، إن هذا الحادث الدبلوماسي والسياسي يظهر حجم التوترات بين باريس وتل أبيب في الوقت الحالي رغم مواصلة فرنسا ترديد “أحقية إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.

وتابعت “أصبح اتفاق وقف إطلاق النار في طي النسيان، وهو ما اعتبره ماكرون إهانة شخصية لم يستطع تخطيها، لأنه يفتقر إلى خط سياسي واضح ولا يعرف إلى أين يتجه وكان يرغب في التمسك بتحقيق أي انتصار”.

أما المحلل السياسي بيران، فيصف ذلك بـ”اللفتة المستفزة والمهينة” للدبلوماسية الفرنسية، رغم أن البلدين “صديقان من حيث المبدأ”، مما يعني أن الحادثة ليست خطيرة، لكن تأثيرها قوي، لأن اعتقال اثنين من رجال الدرك ـوهما جنديان في آخر المطاف- يمثل هجوما ضد الدفاع الفرنسي وانتهاكا صارخا لاتفاقية فيينا، وفق المتحدث.

وبينما تساءل بيران عما إذا كانت هذه الحادثة مدبرة أم عفوية، أوضح أن الإجابات لن تغير واقع الأمر وهو انشغال الإسرائيليين اليوم بمعارك غزة ولبنان وإقالة وزير الدفاع يوآف غالانت، وبلوائح الاتهام الثلاث الجديدة التي أصدرها القضاء الإسرائيلي ضد أشخاص مقربين من نتنياهو.

توتر دبلوماسي

ولا تعد ملامح هذا “الاستفزاز” الإسرائيلي وليدة هذه الزيارة. ففي يناير/كانون الثاني 2020، وقع تدافع أمام كاتدرائية القديسة آن في محيط القدس، مما دفع ماكرون إلى طرد ضابط شرطة إسرائيلي قائلا “نعرف القوانين وعلى الجميع احترامها، اخرج حالا”.

وهي حادثة لا تختلف كثيرا عما تعرض له الرئيس الراحل جاك شيراك عام 1996 في المكان ذاته، حيث طلب من أحد الجنود الإسرائيليين مغادرة الكنيسة قائلا “هل تريدني أن أعود إلى طائرتي وأرجع إلى فرنسا؟”.

وبخصوص الشروط التي أشار إليها بارو للتوصل إلى حلول دبلوماسية، أكد المتخصص في الشؤون الفرنسية والدولية ريموند أنه يتعين تحديد معالم الإدارة الجديدة لمستقبل قطاع غزة، معتبرا أن إمكانية إدارته المشتركة بين حركتي المقاومة الإسلامية (حماس) والتحرير الوطني الفلسطيني (فتح) ستكون حلا مستحيلا بالنسبة للإسرائيليين، خاصة مع وجود وزير دفاع جديد أكثر تشددا.

وهو رأي يتوافق مع تصريحات الكاتب بيران، حيث قال إن شروط الحل الدبلوماسي التي تتحدث عنها باريس لم تتغير وتتمثل في وعدها بضمان الأمن المطلق لإسرائيل، إلا أن معالمها تظل غامضة خاصة وأن فرنسا “معزولة جدا في أوروبا، إذ لم يصدر أحد تصريحات بهذا الشكل”.

وحسب بيران، اعتادت سياسة ماكرون التأرجح ذهابا وإيابا، قائلا “في البداية كان يفكر في إنشاء تحالف ضد حركة حماس، واليوم يرى الأمور من منظور مختلف تماما بعد تولي ترامب منصب رئيس الولايات المتحدة الجديد، لذا يريد أن يسجل حضورا أوفر فيما يخص الحرب في غزة ولبنان ويلعب أي دور في هذه المنطقة”.

من جانبها، تعتبر ليزلي فارين أن هذه الزيارة تأتي في سياق الإشارات الفرنسية لمواصلة التعويل على هذه القضية التي لا تملك فيها باريس أي نفوذ أو دور فعال، وحتى شروط الحل الدبلوماسي التي تحدث عنها وزير الخارجية بارو تظل غير واضحة بعد أن بقي الاتفاق الفرنسي-الأميركي بوقف إطلاق النار في بداية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عالقا.

شاركها.
Exit mobile version