غزة- لم يكن يخطر على بالي أن أجري المقابلة الأخيرة مع الصحفية إيمان الشنطي قبل 50 دقيقة فقط من استشهادها في غزة، وأن عمر الأمل في الخلاص كان قصيرا إلى هذا الحد.

سألتها عن شعورها بانتصار الثورة السورية بين أجواء الحرب والقهر، وقد كانت إيمان تسهر ليلتها بلا نوم، وقلبها ينبض فرحًا، ودموعها تنساب بغزارة، وهي تتابع أخبار انتهاء الظلم والاستبداد في سوريا.

تقول إيمان للجزيرة نت “شعرت أن ليلتنا واحدة، وأن أفراحهم أفراحنا. كنت على تواصل مستمر مع أصدقائي السوريين، نبكي معًا، نكبر معًا، ونتبادل الفرح كما لو أننا عشنا نفس اللحظة ذاتها”.

إيمان، التي كبرت بين وجع النكبة ومعاناة التهجير، ترى في الشعب السوري مرآة للفلسطينيين. تقول “هم يشبهوننا كثيرًا، عاشوا معاناتنا بحذافيرها، واجهوا القهر والنزوح، لكنهم ظلوا دائمًا كرماء في قلوبهم وبيوتهم. السوريون الذين عرفتهم كانوا من أروع الناس، بيوتهم كانت مفتوحة دائمًا لنا في أسفاري، وكأنهم يردون الجميل لتاريخ طويل من الألم المشترك”.

ولعل أعمق أثر في قلب إيمان كان ما صنعه السوريون في الفن، حيث أنتجوا أعمالًا خالدة مثل التغريبة الفلسطينية، التي وثقت معاناة الشعب الفلسطيني بعيون سورية. تقول “آلمهم واقعنا، فجسّدوه في أعمال خلّدت القضية، وهذا يدل على عمق التلاحم بيننا”.

لم يكن هذا الفرح مقتصرًا على إيمان وحدها، بل تعداه إلى أبنائها الذين تأثروا بما حدث. توضح “أبنائي قرؤوا روايات عن أدب السجون، وتأثروا بما قرؤوه عن ألوان التعذيب والظلم الذي عاشه السوريون دون أي تهم تُذكر. هذه القصص قرّبتهم أكثر إلى فهم معاناة الشعوب المضطهدة”.

الشنطي استشهدت بعيد حديثها للجزيرة نت عن تجدد الأمل لديها بانتهاء المعاناة على وقع انتصار الثورة السورية (الجزيرة)

فرحة لم تكتمل

وبينما تعيش غزة وجعًا دائمًا مع المئات من المفقودين والمغيبين قسرًا، تقول إيمان إن الأمل لا يفارقها “فنحن اليوم أيضًا نتشارك مع السوريين ألم الفقد. نحمل أمنيات وأحلامًا بأن نطمئن على أحبائنا المفقودين، وأن نسمع أخبارًا عنهم ولو بعد حين”.

إيمان التي وجدت في الفرح السوري انعكاسًا لأمل فلسطيني، تُلخص شعورها بقولها “نحن شعبان، لكن وجعنا واحد، وحتما فرحنا سيكون واحدًا”.

كانت الفرحة بتحرير سوريا سعادة نادرة ذاقتها الصحفية إيمان الشنطي قبل استشهادها مع عائلتها، فقد انتشل جثمانها مع جثامين أطفالها وزوجها من تحت الأنقاض بعد قصف إسرائيلي استهدف منزلهم بحي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة، وبقي الأمل بدوره تحت الأنقاض في انتظار انتشاله حيا، كما انتشله ثوار سوريا من تحت أنقاض حماة وحمص وحلب ودمشق.

حلم العودة

منذ اللحظة الأولى التي نزحت فيها آية جنوبا، كان حلم العودة إلى مدينتها غزة يبدو كسراب يبتعد مع كل يوم يمضي، لكن مشاهد عودة السوريين إلى ديارهم بعد سنوات طويلة من الفقد والمعاناة، منحتها أملا كبيرا بأن العودة ممكنة، بل أقرب مما تظن.

تقول آية للجزيرة نت “جاءت المشاهد بينما نعيش في ذروة اليأس، فكانت سلوانا وسط مرارة الغربة وإشارة إلى أن العودة لأراضينا المحتلة -لا غزة فحسب- ليست مجرد حلم بعيد المنال”.

ترى آية في الحاجز الفاصل بين شمال قطاع غزة وجنوبه رمزا للظلم الذي عاشه السوريون لسنوات طويلة، ومع زوال ذلك الظلم وعودة السوريين، تؤمن أن الحاجز الذي يحول دون عودتهم إلى ديارهم سيتلاشى يوما.

تعجز آية عن تجاوز تأثير المشاهد التي تابعتها، فعناق الأحبة بعد فراق طويل، والدهشة في عيون الأهالي حين يلمحون وجوه أبنائهم بعد الغياب، والدموع التي تخبر قصصا تفوق الكلمات، مشاهد تحمل في تفاصيلها حزنا، لكن فيها رسالة أمل كبيرة بأن العودة حتمية.

“ربما لن تكون الطريقة التي سنعود بها وفقا لتوقعاتنا، لكنها ستأتي حتما كما جاءت للسوريين رغم كل العقبات”، تقول آية التي ترى أن ما جرى درس عميق في الصمود والإيمان بحتمية انتصار الحق ولو بعد حين.

تحرير نازحة في مخيم اليرموك وهي شقيقة لأسيرين اختطفهما الاحتلال تتمنى أن تحتضن إخوتها كما احتضن الأهالي في سوريا أبناؤهم الجزيرة
تحرير وهي شقيقة لأسيرين اختطفهما الاحتلال تتمنى أن تحتضن إخوتها كما احتضن الأهالي في سوريا أبناءهم (الجزيرة)

حديث الخيام

أمام موقد الحطب عند مدخل خيمتها البسيطة في مخيم اليرموك بغزة تجلس تحرير، وهي شقيقة أسيرين اختطفهما الاحتلال على ما يُسمى “الحواجز الآمنة”، وتقول للجزيرة نت “لم أرَ مشاهد تحرر سوريا من الظلم؛ فلا كهرباء لدينا ولا تلفاز، لكن حديث الخيام منذ أيام يدور حول هذا الأمر”.

تسترسل تحرير بصوت يملؤه الأمل “ما سمعته عن السوريين الذين عادوا إلى أحضان أمهاتهم قرّب إليّ حلم رؤية إخوتي مجددًا، فعودتهم ليست لي فقط بل لأطفالهم وذويهم، لاحتضانهم كما احتُضن مئات الآلاف في سوريا بعد انتهاء الاستبداد”.

تضيف تحرير، التي تعمل مختصة نفسية داخل المخيم، أن مشاعر الفرح والانتصار التي عمت الشوارع السورية انعكست على سكان المخيم، رغم بُعد المسافة واختلاف الظروف، قائلة “هناك أمل يتجدد بأن هذا الظلم لن يدوم، وأن قيد السجان لا بد أن ينكسر”.

وتحكي تحرير للجزيرة نت عن أقصى أمنياتها “أريد العودة إلى بيت لاهيا، أشعر هنا بأن روحي منسلخة عن جسدي منذ اللحظة التي ابتعدت فيها عن بيتي، لا يمكنني احتمال حياة الخيام ومآسيها”.

ورغم محاولاتها الحثيثة لتخفيف الضغط النفسي على النازحين، وهي واحدة منهم، تُظهر أن الأمل يتشبث بالقلوب حتى في أصعب الظروف، وأن الشعوب التي تتشارك الوجع لا تتوقف عن الحلم بمصير مشابه مليء بالحرية والكرامة.

إلى الأمام قليلا، يجلس محمد أمام خيمته واضعًا طبقًا من حساء العدس أمامه، وأطفاله من حوله منهمكون يشربونه بنهم، وفي لحظة تبدو عادية يغمس قطعة خبز في الملح، وينظر إلى الأفق قائلاً “نعمة، الحمد لله”. لم يفقد محمد الأمل رغم شظف العيش.

“سمعت بما حل بسوريا من جيران المخيم”، يقول محمد للجزيرة نت ويتابع: “أخبار مفرحة قربتني من الأمل بالعودة إلى بيوتنا التي هُجّرنا منها قسرًا في شمال القطاع”. حين اندلعت الحرب، كانت فكرة النزوح تثير فيه رعبًا قديمًا “من أول ما بدأت الحرب، قلت يبدو أننا سنصبح مثل السوريين نشبههم في كل شيء”.

محمد نازح من جباليا تأثر بأخبار عودة النازحين السوريين إلى ديارهم ويتمنى أن يتشابه معهم في ذات المصير (الجزيرة)

إرادة المستحيل

يتمنى محمد مثل كثيرين أن ينتهي “كابوس” حياة الخيمة كما يصفها، فهي ليست سوى شكل آخر من أشكال العذاب، ويقول “نعيش الذل حين نأكل، وحين نشرب، وحين ننام، ونتمنى أن نعيش آدميتنا كبشر”.

يلف محمد رأسه بضمادة تخفي جرحًا غائرًا، شاهدًا على لحظة فرار محفوفة بالموت، حيث أصابته رصاصة اخترقت رأس صديقه أولًا، لتستقر في جبينه. لم ينته الألم عند هذه اللحظة، فبينما كان ينزف خضع محمد لتحقيق طويل.

ويصف التحقيق بأنه “حفلة إهانة” حيث كان مكبل اليدين، معصوب العينين، بينما وجهت إليه مجندة الشتائم والاتهامات وضربته دون رحمة، “شعرت بأن كرامتي كانت تُسلب أمام امرأة ولم أستطع أن أفعل شيئًا” ويقول محمد معزيا نفسه “ما يؤنسنا أن الظلم لا يدوم”.

أما ابتسام التي نجت من حصار جباليا بعد شهرين من الصمود فيه، فتتحدث للجزيرة نت عن مشاعرها التي انتعشت بعد سماع خبر انتهاء الظلم في سوريا الذي اعتبرته معجزة لم تكن تتوقعها.

“لم أفرح بهذا الشكل منذ دهر”، تقول ابتسام التي كانت تعتقد أن سوريا قد انتهت وضاعت للأبد تحت وطأة الحرب والدمار، لتأتي الرسالة لكل من عاش الظلم والقهر بأن الإرادة الحقيقية لدفع الظلم يمكن أن تصنع المستحيل.

استعادت ابتسام مشاهد عالقة في ذهنها عندما كانت تتابع أخبار السوريين الذين ذاقوا شتى صنوف المأساة، تقول “كنت أتألم كثيرا لمشاهد المغيبين الذين كانوا يتعرضون للتعذيب الوحشي، بينما كنا نحن نعيش حياتنا اليومية بشكل طبيعي قبل أن تطرق الحرب أبوابنا، وتضيف “كنت أستغرب كيف استطاع السوريون تحمل المأساة لسنوات، لكن عندما عشنا الحرب فهمت أن الصبر ليس خيارا، بل هو ما يفرضه عليك الواقع”.

ترى ابتسام أن الشعب السوري يشبه الفلسطينيين أكثر من أي شعب آخر، ليس فقط في المعاناة بل في الإصرار على الحياة وتختم حديثها “لم يكن لدينا شك بأن الظلم لا يدوم، لكننا لم نتوقع أن يأتي الخلاص بهذه السرعة”.

مشاهد العودة

أما هالة، فتستذكر المشاهد التي بثتها القنوات الإخبارية عن السوريين العائدين إلى مدنهم بعد سنوات من الحرب، وتقول “مشاهد عودة السوريين وقبلها مشاهد رجوع اللبنانيين إلى مدنهم بعد انتهاء الحرب، أثارت شجوننا، كل ما نتمناه هو أن نحظى بنفس تلك اللحظات، أن نعود إلى ديارنا ونشعر بالأمان في بيوتنا”.

تضيف هالة بصوت متهدج “أكبر نعمة يمكن أن يحصل عليها الإنسان هي أن يعيش في بيته بأمان واستقرار، لا أحد يعرف قيمة هذا الشعور إلا من حُرم منه”.

الفرح الذي عاشه الآخرون رغم كونه بعيدًا جغرافيًّا، كان قريبًا جدًّا من قلوب سكان المخيم، “فمصير كل شيء أن ينتهي، ومصير الظلم إلى زوال”، كما تقول هالة، وتتابع “دعاؤنا نحن الفلسطينيين في كل صلاة هو أن نعيش شعور إخوتنا الذين استجاب الله لدعواتهم، كنا نردد خلال متابعة تلك المشاهد “نحن أيضًا يا رب، اجبر خواطرنا كما جبرت خواطرهم”.

هالة واحدة من آلاف الغزيين الذين اتخذوا من المقولة المأثورة “إن أمطرت في بلاد فبشّر بلادا”، ورغم عيشهم في سراديب من الظلمة والقهر فإنهم يرون أن ثمة نورا يلوح في الأفق لكل من يؤمن أن الكرامة لا تُسلب للأبد.

شاركها.
Exit mobile version