يُروى أن بلدة صغيرة تنعم ببعض الراحة والأمان، ويدعي سكانها أن بلدتهم جنة لولا مخفر الشرطة الذي يتوسط القرية؛ لا لشيء محدد، وإنما لمجرد أن رجال الشرطة الذين يديرون المخفر هم من الغرباء عن البلدة، بالإضافة إلى بعض الحجج التي يسوقها رجال القرية حول أحداث لا دليل على مدى صدقها من عدمه.
كان غريب هو الرجل الوحيد في تلك البلدة الذي يربط ذلك الجو من الراحة والأمان بوجود ذلك المخفر الصغير، وهذا ما جعله محط انتقاد وازدراء رجال البلدة. وفي مراحل متقدمة لم يعد غريب يتجرأ على التعبير عن وجهة نظره تلك، فمخالفة القطيع تودي بصاحبها إلى التهلكة أحياناً.
في صبيحة أحد الأيام لاحظ قحطان أن الاحتقان الشعبي وصل ذروته، ولاحظ أن البعض يرمقه بنظرات غاضبة، فغادر السوق ملتجئاً إلى منزله تنتابه مشاعر الذعر والحيرة، وما هي إلا ساعة حتى ارتفع صوت الاحتجاجات الذي أعقبه صوت إطلاق الرصاص. استغرقت أعمال الاحتجاج الغاضب أكثر من ساعة حصلت فيها الكثير من الأحداث التي تجعل الفضول يدفع أي إنسان ليخرج من منزله ليشاهد ما الذي يحصل، وبالفعل خرج الجميع رجالاً وأطفالاً ونساءً متجهين نحو المخفر إلا غريب الذي ازداد خوفاً بعد أن سمع من المارة في الشارع وهم يتراكضون أن بعض أغنام القرية وخرافها هاجموا مخفر الشرطة (هكذا يسمي غريب بعض رجال القرية وفتيانها كناية عن أن هناك من يسوقهم).
لم يمض وقت طويل حتى وصلت قوات من المؤازرة فرقت المتظاهرين واعتقلت بعض المتحمسين منهم، وفي اليوم التالي قام وفد من وجهاء البلدة بالتجمع والتشاور ومن ثم الذهاب لمطالبة السلطات بإطلاق سراح أبناء بلدتهم والمطالبة بإزالة مخفر الشرطة من بلدتهم لأن وجوده سيبقى مصدراً للمتاعب والمشاكل لتلك البلدة الوادعة. بالفعل؛ بعد جولات من المفاوضات قررت السلطات إغلاق المخفر في تلك البلدة وإطلاق سراح الموقوفين من أبنائها. عندها علم غريب أنه أصبح بحاجة ماسة للبحث عن موطن آخر، وما هي إلا أيام حتى عثر على مسكن للإيجار في بلدة أخرى.
مر ما يقارب العام ولم يلتق غريب بأحد من أبناء بلدته التي غادرها إلى أن تفاجأ عشية يوم بطرق شديد على بابه؛ هرع إلى الباب وفتحه ليتفاجأ أن الطارق هو قحطان. قحطان ابن بلدته وصديق طفولته الذي تحول لعدو نتيجة موقفه من المخفر؛ فقد كان من كبار المتحمسين لإزالته من القرية، وكان أحد الموقوفين في قضية الهجوم عل المخفر. وبينما قحطان يردد: “داخل عليك يا صديقي”، كان غريب يقول تفضلوا، تفضلوا، ادخلوا بسرعة. لقد كان يوماً ماطراً شديد البرودة وقحطان وأسرته كأنهم سقطوا في بركة ماء ثم خرجوا وهم يرتجفون من البرد.
مضت ساعتان حتى تمكن الجميع من التقاط أنفاسهم، وبعد أن شعر الجميع بالشبع بعد الجوع والدفء بعد البرد حان الوقت لتبادل أطراف الحديث وطرح الأسئلة، وما إن سُئل قحطان عما حل به وما الذي دفعه لمغادرة بلدته في تلك الأوقات حتى تجهّم وجهه والتقط نفساً عميقاً ثم بدأ الحديث: هل تعلم يا صديقي بأنني منذ الصباح هنا أبحث عنك ولم أجدك حتى هذا الوقت؟ لقد غادرت صباحاً لأن المختار أعطاني فرصة حتى اليوم وإلا سيجعلني عبرة لمن يعتبر؛ كل هذا لأنني رفضت أن أزوج ابنتي لابنه المتزوج من اثنتين؛ ابن المختار يريد أن يتزوج ابنتي رغم أنفي وأنفها. فقاطعه قحطان بقوله: معقول يا رجل، ما عهدت المختار بهذه الطباع؟! أنت تعرف المختار وبعض وجهاء القرية من أصحاب النفوذ قبل إغلاق المخفر، هكذا أجاب قحطان، ثم أردف: لقد تلاعبوا بنا ودفعونا لمهاجمة المخفر وشبهوا رجال الشرطة بالمحتلين، وادعوا بأنهم غيورون على أبناء بلدتهم، ليتبين أنهم يحاولون التخلص ممن يقيد حريتهم في ممارسة الظلم والقهر على الضعفاء، إنهم اليوم يجمعون الإتاوات ويعتدون على الأعراض والأرزاق، لقد أحالوا حياة الناس في البلدة إلى جحيم. لم يتوقف قحطان عن الكلام لكنه انفعل وتحشرج صوته ولم يعد كلامه يفهم…
ربما غادر الشرطي أو لعله ضعف، وهذا ما كانت تتمناه الأغلبية؛ فأعادوا القتلة إلى جامعتهم المهيبة.
وربما لم تكن أمنيات الأغلبية هي التي أضعفت الشرطي، كما إنها لا تعد سبباً كافياً لمحاسبتهم، لكن الأماني تصلح لتقييم صاحبها، أي نوع من البشر هو.