متوشحا بالكوفية الفلسطينية ومتفاعلا مع كل كلمة يقولها وواضعا خلفه صورة قبة الصخرة يحيطها جماهير تحمل الأعلام التركية، أراد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يكون خطابه عالي السقف ضد إسرائيل ويتضمن رسائل في أكثر من اتجاه، أهمها إعلانه أن “إسرائيل مجرمة حرب أمام العالم”.
وفي الخطاب أمام مظاهرة مليونية لنصرة غزة في إسطنبول، لم يكتف أردوغان بهذا بل أعاد تأكيد ما قاله عام 2018 إنّ حماس ليست منظمة إرهابية، بل حركة مقاومة مشروعة.
ومن الواضح أن إعادة العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل وتركيا على مستوى السفراء واستقبال أردوغان للرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ عام 2022، أصيبت بمقتل، وهو ما عبر عنه أردوغان شخصيا عندما أكد إلغاء كلّ خططه لزيارة إسرائيل بسبب هجماتها الوحشية ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
وصعّد الرئيس التركي من كلامه ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قائلاً “صافحت يدي هذا (..) الذي يدعى نتنياهو مرة واحدة في حياتي (على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول الماضي)، بالطبع كانت لدينا نوايا حسنة وأساؤوا استخدامها”.
نبرة عالية كان يظن المسؤولون الإسرائيليون -على ما يبدو- أن أردوغان لن يعود إليها بسبب رحلة بدء إعادة تطبيع العلاقات، وهذا ما يدل عليه تصاعد اللهجة والتصعيد الإسرائيلي ضد تركيا وأردوغان نفسه.
وأبرز هذه الردود كانت لوزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين الذي وصف التصريحات بالـ “الخطيرة”.
وأصدر تعليمات للممثلين الدبلوماسيين الإسرائيليين في تركيا، بالعودة بهدف “إعادة النظر في العلاقات التركية الإسرائيلية”.
ولكن المفاجأة كانت ما نقلته وكالة أنباء الأناضول التركية الرسمية عن مصادر دبلوماسية قولهم “إن الدبلوماسيين الإسرائيليين ليسوا في تركيا بالوقت الحالي، فقد غادروا بلادنا اعتبارا من 19 أكتوبر/تشرين الأول الماضي (أي قبل 6 أيام من تغريدة كوهين)”.
وأضافت المصادر أنه “في المذكرة التي أرسلوها إلى الخارجية التركية في 18 أكتوبر/تشرين الأول، ذكروا أنه في ضوء التطورات الأخيرة، سيغادر الدبلوماسيون في السفارة تركيا اعتبارا من 19 من نفس الشهر.. من الصعب أن نفهم لمن أوعز كوهين بالعودة (إلى إسرائيل) لأن الدبلوماسيين الذين ذكرهم في بيانه غادروا بلادنا بالفعل”.
وهذه ليست المرة الأولى التي يوبخ أو يهاجم فيها أردوغان إسرائيل ومسؤوليها أو يدعم غزة وشعبها، فبعد 6 سنوات فقط من توليه منصب رئيس الوزراء، وبخ الرئيس الإسرائيلي آنذاك شمعون بيريز، في المنتدى الاقتصادي العالمي السنوي في دافوس عام 2009، واتهم الحكومة الإسرائيلية بقتل الأطفال الفلسطينيين.
ومما زاد التوترات بشكل أكبر، كان أسطول سفن الحرية عام 2010 في محاولة لاختراق الحصار التي كانت تفرضه البحرية الإسرائيلية على غزة، مما أدى إلى مقتل 10 أتراك على متن سفينة “مافي مرمرة”.
وحاول الأتراك والإسرائيليون التقارب ومحاولة إعادة الحرارة للعلاقات منذ 2014، ولكن الحرب على غزة عام 2018 وإعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب نقل السفارة الإسرائيلية إلى القدس، دفع الأتراك إلى سحب السفير من تل أبيب وكذا فعلت إسرائيل.
مستقبل العلاقات بين تل أبيب وأنقرة
تقول صحيفة “ناشيونال إنترست” الأميركية أن “أردوغان الذي يرأس دولة عضوة في حلف شمال الأطلسي (ناتو) لم يقف إلى جانب إسرائيل في أحلك أوقاتها كما فعل حلفاؤه الغربيون، واختار الانضمام إلى العالم الإسلامي في دعم فلسطين”.
وتابعت “موقف أنقرة المعادي لإسرائيل يحظى بدعم الرأي العام التركي. وهذا ليس أمراً خاصاً بتركيا ولكنه يمثل إلى حد كبير العالم الإسلامي”.
بدورها، نعت الأكاديمية الإسرائيلية جاليا ليندنشتراوس التقارب بين إسرائيل وتركيا بعد خطاب أردوغان “عالي اللهجة” وأضافت أن تطبيع العلاقات بين الطرفين الذي بدأ عام 2022 “انتهى”.
وأضافت “إسرائيل لا تريد إضافة أي توتر إضافي على المشهد المأزوم أصلا، وتعمل الحكومة على عدم الدخول في صراع مباشر مع تركيا ولكنها ستراقب تصريحات وأفعال أنقرة”.
في المقابل، يقول أحمد أويصال أستاذ العلاقات الدولية في جامعة إسطنبول “هناك توتر شديد بين تركيا وإسرائيل بسبب القصف على غزة وقتل المدنيين”.
ويتابع في حديث للجزيرة نت “أردوغان أعلن أن إسرائيل مجرمة حرب، وردت بسحب عدد من الدبلوماسيين، فالحكومة والشعب التركيان لن يرضيا بما تفعله إسرائيل في غزة”.
ولفت إلى احتمال أن “ترد تركيا بالمثل وتسحب دبلوماسيها من تل أبيب، ولكن حتى الآن تركيا تركز على الضغط الدبلوماسي وحشد الحكومات الغربية لممارسة الضغوط على إسرائيل وخاصة على حلفائها مثل الولايات المتحدة لوقف حربها على غزة، وهذه الجهود الدبلوماسية ستتصاعد وتتكثف إذا واصلت إسرائيل حربها”.
تركيا وحماس
وبعد خطاب أردوغان، كان لافتا السؤال الذي طرحته مجلة “فورين بوليسي” الأميركية عن إمكانية قطع أردوغان العلاقات مع حماس؟ ورجحت أن تزيد واشنطن الضغط على أردوغان لقطع هذه العلاقات.
وتجيب المجلة بسرعة وفي أول فقرة من مقالها عن السؤال “انسوا قطع العلاقات مع حماس، فمن غير المرجح أن يدين أردوغان بشكل لا لبس فيه الفظائع الأخيرة التي ارتكبتها حماس، باعتبارها عملاً إرهابياً. والسبب في ذلك بسيط: أردوغان يتعاطف مع قضية حماس”.
وتوضح “تأييد أردوغان لحماس جعل المنظمة وقضيتها تحظى بشعبية كبيرة بين قاعدته من الناخبين. والأسبوع الماضي فقط، شهدت تركيا عدة مسيرات عامة، جميعها تدين إسرائيل. وبعد مرور يومين فقط على الهجمات المميتة، نظم حزب الهدى -شريك بائتلاف أردوغان الحاكم- مسيرة احتفالية خارج القنصلية الإسرائيلية في إسطنبول، وهتفوا ضد إسرائيل”.
وتختم المجلة الأميركية بأنه “تكهن الكثيرون بأن إقامة علاقات جوهرية بين تركيا وإسرائيل لن تكون ممكنة إلا بعد أن تتوقف تركيا عن استضافة حماس على أراضيها. وأتاحت هجمات حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول لأنقرة فرصة فريدة لتركيا للوقوف إلى جانب إسرائيل، وهي فرصة من المرجح أن يهدرها”.
تداعيات اقتصادية
ولم يتوقف الرد الإسرائيلي على الموقف التركي فقط عند السياسة بل تخطاها إلى الاقتصاد، إذ ذكرت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية أن عددا من سلاسل المتاجر الكبرى الإسرائيلية أوقفت الواردات من تركيا.
وتشمل الشركات أكبر سلسلة سوبر ماركت في إسرائيل “شوفرسال” ومنافسيها الرئيسيين “رامي ليفي” و”يوخانانوف” وكذا فعل عدد من المستوردين الصغار.
وأصبحت تركيا مؤخرًا واحدة من أكبر المصدرين لإسرائيل، حيث احتلت المرتبة الخامسة العام الماضي بعد الصين والولايات المتحدة وسويسرا وألمانيا. وعام 2022، بلغت الواردات الإسرائيلية من تركيا 7 مليارات دولار.
وعلى الرغم من التوترات المتصاعدة، لا يزال خط أنابيب باكو-تبليسي-جيهان يعمل، حيث يوفر جزءًا كبيرًا من احتياجات إسرائيل السنوية من النفط.
ويقول رئيس اتحاد غرف التجارة الإسرائيلية وجمعية المصدرين الأتراك، أوريل لين، إن الوضع الحالي يمثل “صدمة كاملة” ويمكن أن يؤثر بشكل كبير على الواردات إلى إسرائيل.
وتابع “نحن واقعيون ومن الواضح أن الكثير من المستوردين سيكونون حذرين بشأن الشراء في تركيا. كما أننا لا نعرف ما إذا كانوا يريدون البيع لنا”.
ويبدو مسؤول إسرائيلي آخر -طلب عدم الكشف عن هويته- أكثر تفاؤلا، وقال إنه “إذا نظرنا إلى البيانات التجارية بين إسرائيل وتركيا على مدى فترة طويلة، يمكنك أن ترى أن الحجم الإجمالي يتزايد باستمرار. وتابع “هناك أسباب منطقية لذلك، فهي قوة اقتصادية جيدة وغير مكلفة قريبة منا”.
وأوضح “ارتفعت الأرقام على الرغم من التحديات والعمليات العسكرية في غزة خلال العقد الماضي. وفي معظم الفترات، كانت هناك دائما تحديات في العلاقات بين البلدين. بناءً على هذه التجربة، نتوقع أن حجم التجارة الذي نراه اليوم سيستمر عند نفس المستوى تقريبًا”.
الطماطم والطاقة
وتوضح “هآرتس” أن بعض تجار التجزئة الذين أوقفوا الواردات التركية يفعلون ذلك إلى حد كبير بسبب الضغط الشعبي الشديد الأيام الأخيرة. واتُهمت “رامي ليفي” وهي سلسلة سوبر ماركت كبيرة أخرى، بتفضيل الطماطم التركية على الإسرائيلية، رغم أن الشركة تنفي ذلك.
وكجزء من الضغوط، بعث اتحاد المزارعين الإسرائيليين رسالة يحث فيها تجار التجزئة على التنفيذ الفوري للقانون الذي يتطلب وضع علامة على بلد المنشأ للمنتجات، وهو قانون من المقرر أن يدخل حيز التنفيذ بعد أشهر من الآن.
وفي الرسالة، يشير الاتحاد إلى الضرر الذي ألحقته الحرب بالفعل بالمزارعين الإسرائيليين، وتعبئة الإسرائيليين للمساعدة في الحصاد ونقل المنتجات في الأماكن التي غادرها العمال الأجانب.
ويطلب المزارعون أيضا من سلاسل المتاجر الكبرى وضع علامة على المنتجات الإسرائيلية حتى يتمكن المستهلكون من إظهار التضامن مع الزراعة في بلادهم.
ويبدو أن تجار التجزئة يدركون أن المستهلكين الإسرائيليين يعتبرون الآن الطماطم التركية “محرمة” وقد أعلن الكثيرون أنهم سيتوقفون عن طلبها. ومع ذلك، تقول وزارة الزراعة إنه من المقرر أن تصل 6 سفن هذا الأسبوع محملة بالفواكه والخضراوات من تركيا.
ومن شأن التوقف التام لواردات الطماطم التركية أن يؤدي إلى نقص، لأن الإنتاج المحلي لا يلبي سوى حوالي نصف الطلب. ويجب أن يتم استيراد الطماطم من دول مثل اليونان أو هولندا، الأمر الذي قد يجعلها أكثر تكلفة قليلاً.
ويشير مراقبون إلى أن تأثير هذا الخلاف قد يتسبب في تأخير تنفيذ بعض مشروعات الطاقة وعلى مستوى التنسيق السياسي والأمني، لكن في النهاية فهناك حرص مشترك بين تركيا وإسرائيل على ألا تعود العلاقة لما كانت عليه قبل 2010.
وما يعزز هذا التحليل أن الشحنة الأخيرة التي تبلغ مليون برميل من النفط الخام الأذربيجاني من ميناء جيهان التركي إلى ميناء إيلات الإسرائيلي، جاءت بعد خطاب أردوغان، مما يشير إلى أن الاعتبارات الاقتصادية لا تزال تلعب دورًا حاسمًا في العلاقة.
إضافة إلى أن خط أنابيب “باكو-تبليسي-جيهان” يعمل بشكل اعتيادي، حيث يوفر جزءا كبيرا من احتياجات إسرائيل السنوية من النفط.
المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية + مواقع التواصل الاجتماعي