تثير التوترات المتصاعدة في منطقة الشرق الأوسط مخاوف اقتصادية واسعة النطاق، خاصة في أوروبا التي تعتمد بشكل كبير على واردات الطاقة من الخارج، حيث تواجه منطقة اليورو مع ارتفاع أسعار النفط نتيجة تلك الصراعات، احتمالاً متزايداً لعودة التضخم بعد أن تمكن البنك المركزي الأوروبي بصعوبة من كبح جماحه خلال الأشهر الماضية.
الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة، الذي تجاوز 10 بالمئة خلال الأسبوعين الأخيرين، قد يعيد التضخم إلى الواجهة إذا استمر لفترة طويلة، مما يضعف الجهود التي بذلها البنك المركزي لخفضه إلى مستويات مقبولة.
وفي ظل تعافي سلاسل التوريد بصعوبة بعد الأزمات السابقة، كالجائحة والحرب الروسية الأوكرانية، فإن أي اضطراب جديد قد يفاقم الوضع الاقتصادي ويزيد من الضغوط التضخمية في المنطقة. ورغم محاولات البنك المركزي الأوروبي للحفاظ على استقرار الأسعار من خلال سياساته النقدية، إلا أن استمرار ارتفاع أسعار الطاقة قد يدفعه إلى إعادة النظر في استراتيجيته الحالية.
في ضوء هذه التطورات يبقى السؤال الأهم: هل يتمكن البنك المركزي الأوروبي من الحفاظ على مكاسبه في مكافحة التضخم أم أن الصراع في الشرق الأوسط سيعيد التضخم إلى مستويات مقلقة؟
وخفض البنك المركزي الأوروبي في 12 سبتمبر الماضي، معدل الفائدة الرئيسي على الودائع بمقدار 25 نقطة أساس، للمرة الثانية هذا العام، إلى 3.50 بالمئة، مقابل 3.75 بالمئة وهو المستوى الذي وصل إليه في يونيو الماضي بعد خفضه بمقدار 25 نقطة نزولا من مستواه القياسي البالغ 4 بالمئة، حيث أشار البنك حينها أن تراجع التضخم وتباطؤ النمو الاقتصادي يسمحان بقليل من التيسير للسياسة النقدية.
هذا الخفض جاء بعد سلسلة غير مسبوقة من رفع أسعار الفائدة في منطقة اليورو بدءاً من منتصف عام 2022 لكبح جماح التضخم الذي تراجع ببطء نحو هدف البنك المركزي الأوروبي البالغ 2 بالمئة، حيث سجل 2.6 بالمئة في مايو الماضي على أساس سنوي وهو الشهر الذي سبق أول خفض للفائدة، لكنه واصل تباطؤه بشكل ملحوظ خلال شهر سبتمبر الماضي، ليسجل 1.8 بالمئة على أساس سنوي، منخفضاً إلى ما دون عتبة 2 بالمئة للمرة الأولى منذ أكثر من ثلاث سنوات.
وكان البنك المركزي الأوروبي أبقى على أسعار الفائدة الرئيسية دون تغيير خمس مرات متتالية آخرها في اجتماع أبريل الماضي حيث كان المعدل 4 بالمئة وهو الرقم الذي وصل إليه في سبتمبر 2023، بعد 10 زيادات منذ ديسمبر 2021، وهذه الزيادات جاءت نتيجة الارتفاع المتواصل في معدل التضخم الذي وصل في أغسطس عام 2022، إلى أعلى مستوى له على الإطلاق عند 9.1 بالمئة.
وفيما توقع رئيس البنك المركزي الفرنسي، فرانسوا فيليروي دي جالهاو أن يخفض المركزي الأوروبي أسعار الفائدة في اجتماعه يوم 17 أكتوبر الجاري للمرة الثالثة هذا العام بسبب ضعف النمو الاقتصادي، تؤكد تقارير اقتصادية وخبراء بأن الصراع في الشرق الأوسط قد يؤدي إلى تفاقم عدم الاستقرار في الاقتصاد العالمي، مما يساهم في زيادة حالة عدم اليقين والإضرار بالجهود الرامية إلى مكافحة التضخم.
وقد حذّر صندوق النقد الدولي من التداعيات الاقتصادية الكبيرة التي قد تترتب على تصاعد الصراع في الشرق الأوسط. وصرّحت جولي كوزاك، المتحدثة باسم الصندوق، في تصريح صحفي بأن الأسعار العالمية للسلع الأساسية، مثل النفط والحبوب، قد ارتفعت نتيجة هذا الصراع، إلى جانب زيادة تكاليف الشحن، بسبب تجنب السفن الهجمات على الملاحة في البحر الأحمر.
كما أشارت تقارير لصحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن المستثمرين بدأوا يأخذون بعين الاعتبار المخاطر المتزايدة في المنطقة، خاصة بعد التصعيد بين إيران وإسرائيل، ما أدى إلى ارتفاع أسعار النفط.
ويرى المحللون في “كابيتال إيكونوميكس” أن أسعار النفط قد تحتاج إلى الوصول إلى 90 دولارًا للبرميل لتصبح مؤثرة في قرارات البنوك المركزية، في حين بلغت أسعار خام برنت حتى يوم الجمعة الماضي 78 دولاراً للبرميل.
وفي السياق ذاته، قال أحمد كايا، كبير الاقتصاديين في المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية في المملكة المتحدة، إن هذا الصراع قد يؤدي إلى تقليص نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويسهم في تسريع التضخم نتيجة تعطل سلاسل التوريد الدولية وارتفاع تكاليف الطاقة والشحن.
وأشار كايا في تقرير في نشره موقع “بيزنس إنسايدر” واطلع عليه موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إلى أن ارتفاع أسعار النفط بمقدار 10 دولارات للبرميل يمكن أن يزيد التضخم في الاقتصادات المتقدمة بنحو 0.4 إلى 0.6 نقطة مئوية، فيما قد يؤدي ارتفاع تكاليف الشحن بنسبة 10بالمئة إلى رفع التضخم بنحو 0.3 نقطة مئوية.
وأكد كايا أن هذه الضغوط التضخمية قد تدفع البنوك المركزية إلى تأجيل خفض أسعار الفائدة، مما يعوق النمو الاقتصادي في وقت تنتشر فيه مخاوف الركود في العديد من البلدان.
استمرار ارتفاع أسعار النفط سيعيد التضخم إلى أوروبا
في حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” قال الرئيس التنفيذي لمركز “كروم للدراسات الاستراتيجية” في لندن طارق الرفاعي “إن هناك احتمالاً لعودة التضخم إلى منطقة اليورو نتيجة الصراع الحالي في منطقة الشرق الأوسط”، وأوضح أن ذلك مرتبط بشكل أساسي بارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا، حيث شهدت أسعار النفط، وعلى سبيل المثال خام برنت، خلال الأشهر الماضية انخفاضاً إلى أدنى مستوى لها منذ أكثر من عامين، إلا أنها سجلت قفزة بأكثر من 10 بالمئة خلال الأسبوعين الأخيرين.
وأضاف الرفاعي: “السؤال هنا هو ما إذا كانت هذه الزيادة في الأسعار ستستمر وتصبح مستدامة، ففي حال استمرار الارتفاع، من المتوقع أن نشهد عودة التضخم بنسب مرتفعة في الدول الأوروبية، لكن ذلك سيستغرق بضعة أشهر قبل أن يظهر تأثيره”.
أما السبب الثاني المحتمل لعودة التضخم فهو حدوث اضطرابات جديدة في سلاسل التوريد، كما رأينا في العام الماضي مع اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس، مما قد يؤدي أيضاً إلى تصاعد التضخم في القارة الأوروبية، وفقاً للرفاعي.
لا مؤشرات على تغيير السياسة النقدية
وحول السياسات النقدية، أكد الرئيس التنفيذي لمركز “كروم للدراسات الاستراتيجية” أنه لا توجد في الوقت الحالي مؤشرات على أن البنك المركزي الأوروبي سيغير سياسته النقدية. وأضاف: “من المرجح أن يتوقف البنك عن إجراء أي تغييرات في الاجتماع القادم إذا ما استقرت الأسواق المالية. ولكن في حال الحاجة إلى اتخاذ خطوة، قد يكتفي بخفض سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس. وفي كل الأحوال، فإن رفع أسعار الفائدة يبدو مستبعداً في الوقت الراهن.”
من جهته، قال الخبير الاقتصادي الدكتور محمد جميل الشبشيري في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “بالتأكيد، قد يشكل الصراع في منطقة الشرق الأوسط تهديداً كبيراً لجهود البنك المركزي الأوروبي في مكافحة التضخم، ففي سبتمبر الماضي خفض البنك المركزي أسعار الفائدة للمرة الثانية في سياق تدهور الظروف الاقتصادية في منطقة اليورو مع تراجع معدل التضخم إلى 2.2 بالمئة في أغسطس الماضي مما جعل البنك يضطر إلى تعديل توقعاته للنمو”.
إن الصراع المستمر في الشرق الأوسط قد يؤدي إلى تقلبات في أسعار النفط، والتي تعد حيوية للاقتصادات الأوروبية، حيث يعتمد الاتحاد الأوروبي بشكل كبير على واردات الطاقة من المنطقة، وأي زيادة محتملة في أسعار النفط نتيجة للتوترات الجيوسياسية يمكن أن تضغط على مستويات الأسعار في أوروبا، فالأسواق تتأثر بشدة بأي أنباء سلبية من المنطقة، مما يرفع من تكاليف الطاقة ويدفع التضخم إلى أعلى، بحسب تعبيره.
كيف تتأثر السياسات النقدية؟
وذكر الخبير الاقتصادي ثلاثة عوامل يمكن أن تؤثر على السياسة النقدية جراء الصراع الدائر حالياً في المنطقة وهي:
- الضغوط التضخمية: ارتفاع أسعار النفط سيؤدي إلى زيادة التكلفة العامة للمعيشة، مما يعرقل جهود البنك المركزي الأوروبي في السيطرة على مستويات الأسعار. على الرغم من أن البنك كان يسعى لتحقيق هدف تضخم قدره 2 بالمئة، فإن الضغوط الناتجة عن أسعار الطاقة المرتفعة قد تجعل ذلك صعباً.
- الاستهلاك: كما أن زيادة تكاليف الطاقة ستؤثر على ميزانيات الأسر، مما يقلل من الاستهلاك الخاص، وقد يؤدي إلى تباطؤ في النمو الاقتصادي، وستجد البنوك المركزية نفسها في موقف صعب بين الحاجة إلى مكافحة التضخم والحفاظ على النمو.
- عدم اليقين الاقتصادي: حالة عدم اليقين في الأسواق المالية قد تؤدي أيضاً إلى تراجع ثقة المستهلكين والمستثمرين، مما يضيف المزيد من التعقيدات للتحديات الاقتصادية التي تواجه البنك المركزي الأوروبي.
وأوضح الخبير الاقتصادي الشبشيري أن الشراكة التجارية بين منطقة الشرق الأوسط والاتحاد الأوروبي تعد مهمة، حيث بلغ حجم التجارة بين الجانبين أكثر من 200 مليار يورو في عام 2022. ورغم الفوائد الاقتصادية المتبادلة، فإن التوترات السياسية مثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والعقوبات على إيران يمكن أن تؤثر سلباً على هذه العلاقات.