مع تزايد التغيرات السريعة في أسواق العمل وتنوع متطلبات التوظيف، برز سؤال حول المعايير التي تعتمدها الشركات في تعيين موظفيها: هل الأولوية للموهبة أم للعمر والخبرة؟
يشير هذا السؤال إلى نقاش أعمق حول كيفية تحقيق التوازن بين استقطاب الشباب الموهوبين ذوي الطاقات الإبداعية وبين الاستفادة من خبرات ذوي الأعمار المتقدمة. بينما تطرح بعض الجهات الحكومية والخاصة في بعض البلدان قيودًا عمرية وشروطًا للخبرة قد تؤدي إلى إغفال جوانب الموهبة والشغف.
في بعض الوظائف، قد تكون الخبرة والتأهيل الأكاديمي شرطًا أساسيًا للقبول، بينما تغيب أهمية الموهبة، ما يثير تساؤلات حول قدرة هذه المؤسسات على تحقيق الإبداع والابتكار. وفي المقابل، هناك توجهات عالمية تمنح أولوية كبيرة لاستقطاب الأفراد الموهوبين بغض النظر عن أعمارهم، معتبرةً أن الشغف والكفاءة عوامل رئيسية لضمان النجاح المهني. هذا التوجه المتزايد يعكس حاجة المؤسسات إلى نهج أكثر مرونة، حيث بات التوفيق بين الموهبة والخبرة مسألة استراتيجية لتحقيق النمو والابتكار.
يرى الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI، سام ألتمان، أن الاستراتيجية المثلى للتوظيف تعتمد على المزج بين الشباب عديمي الخبرة وذوي الخبرة الأكبر سناً، مشددًا على أن الموهبة يجب أن تكون المعيار الأساسي، بغض النظر عن السن. جاء ذلك خلال مشاركته في حلقة من بودكاست سابقة، أوضح خلالها أن الشركات يمكنها الاستفادة من التوظيف المتنوع الذي يجمع بين العناصر الشابة الطموحة والقديمة ذات الخبرة، بحسب ما نقله موقع “بيزنس انسايدر” في تقرير اطلع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” عليه.
وأشار ألتمان إلى أن عدم الخبرة لا يعني انعدام القيمة، مؤكدًا أن الاستثمار في الأفراد الصاعدين في بداية حياتهم المهنية يمكن أن يؤدي إلى نتائج مثمرة. ورغم أنه يفضل أحيانًا تحمل المخاطرة مع الشباب، إلا أنه شدد على ضرورة عدم الاعتماد على موظف قليل الخبرة في أدوار تتطلب إدارة مشاريع معقدة أو ذات مخاطر عالية. وأكد ألتمان على أهمية المزج بين الفئتين، معتبراً أن التركيز على توظيف الشباب فقط أو الخبراء الأكبر سنًا فقط يمكن أن يكون استراتيجية غير ملائمة.
شركات التكنولوجيا
وتبرز مشكلة في سوق العمل في شركات التكنولوجيا الكبرى، حيث أصبحت هذه السوق تنافسية بشدة فيما يتعلق بجذب مواهب الذكاء الاصطناعي، خصوصًا على مستوى المناصب القيادية، بينما يجد الأفراد من المستوى المتوسط والأصغر أنفسهم أمام فرص أقل توظيفًا. إذ دخلت شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل Google وMicrosoft، في “حرب مواهب” لجذب كبار الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي. فعلى سبيل المثال، قامت Google بتوقيع صفقة مع شركة Character.ai الناشئة، بهدف إعادة توظيف موظف سابق في Google. وبالمثل، قدمت Microsoft مبلغًا كبيرًا لشركة Inflection لجذب مؤسسيها، مصطفى سليمان وكارين سيمونيان.
رغم معركة الشركات على استقطاب كبار الباحثين، لم تتحقق نتائج مماثلة بالنسبة للموظفين الأقل خبرة. فقد أصبحت سوق العمل أكثر تحديًا للخريجين الجدد الذين يجدون صعوبة متزايدة في إيجاد فرص عمل في قطاع التكنولوجيا، وهو ما يعزونه إلى انتشار الذكاء الاصطناعي، ونقل الأعمال إلى الخارج، وتسريحات العمال في الشركات التكنولوجية.
وفقًا لدراسة استقصائية أجريت على 750 عاملاً في الولايات المتحدة، أشار أكثر من عشرات الخريجين الجدد إلى أنهم يواجهون تحديات في إيجاد وظائف تقنية، رغم حصولهم على تدريب داخلي في المجال وشهادات أكاديمية من جامعات مرموقة.
التمييز
وإلى جانب تركيز ألتمان على الموهبة فوق العمر، تبرز مشكلة أخرى هي التمييز في العمر، حيث يعاني بعض موظفي التكنولوجيا الأكبر سنًا من صعوبة في الاحتفاظ بوظائفهم أو الحصول على فرص جديدة بسبب تقدمهم في السن. وقد صرح بعض الموظفين الأكبر سنًا بأنهم يواجهون مخاطر التسريح بسبب أعمارهم، مما يزيد من شعورهم بعدم الأمان الوظيفي. ويجد هؤلاء الموظفون أنفسهم أمام تحديات تتعلق بتوفر فرص جديدة تتطلب مهارات تقنية جديدة قد لا تتماشى مع أعمارهم.
من ناحية أخرى، يعاني بعض أفراد الجيل Z، أو الموظفين الشباب، من الصور النمطية السلبية التي يتم إلصاقها بهم في أماكن العمل، حيث يُنظر إليهم أحيانًا على أنهم “كسالى”. وتسبب هذا التصور السلبي في حرمان البعض منهم من الترقيات أو من تحمل مسؤوليات أكبر، حسب تصريحات بعض الموظفين الشباب. وروى أحد هؤلاء، البالغ من العمر 25 عامًا، شعوره بأنه قد تم تهميشه في بعض الأدوار بسبب صغر سنه، مما ينعكس سلبًا على فرص التطور الوظيفي التي يسعى لتحقيقها.
نموذج مرن
بهذا الصدد، يُعد نموذج التوظيف الذي ينتهجه ألتمان متوازنًا ومرنًا، إذ يعتمد على تقييم الأفراد وفقًا لموهبتهم وقدراتهم، مع مراعاة عامل العمر حينما يكون ذا صلة بنوعية العمل المطلوب. هذا التوجه من شأنه أن يسهم في خلق بيئة عمل مبتكرة وجاذبة لمختلف الأعمار والخبرات، ويدفع نحو إدماج الموظفين الشباب في الأدوار المختلفة بقدر موازي مع الأفراد الأكبر سنًا، حيث يتم تقييم الجميع وفقاً لمستوى كفاءتهم.
ويعتبر هذا التوجه ذا أهمية خاصة في ظل سوق العمل التنافسي الحالي، حيث أصبح امتلاك مهارات الذكاء الاصطناعي قيمة مضافة رئيسية تسعى جميع الشركات للحصول عليها لضمان استمراريتها وتطورها في سوق سريع التطور.
الاهتمام بالموهبة
من جهته، قال مدير مركز رؤية للدراسات الاقتصادية، بلال شعيب، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الموهبة ليست مرتبطة بعمر معين، إلا أن بعض الوظائف، خاصة في القطاع الحكومي، لا تركز بشكل كافٍ على الموهبة، ما يجعلها تعتمد غالبًا على شروط تقليدية مثل الخبرة والشهادات التعليمية دون اعتبار حقيقي للإبداع والابتكار.
وأشار شعيب إلى أن هناك غالبًا شروطًا أساسية تُفرض على المتقدمين للوظائف، ويأتي على رأسها الخبرة العملية والتحصيل العلمي، مع وضع الموهبة في مرتبة أقل من هذه المتطلبات. وأوضح أن هذا النهج يؤدي إلى غياب الاهتمام بالموهبة في كثير من الأحيان، وخاصة في بعض الدول بالعالم العربي، حيث يفضل الكثيرون وضع شروط عمرية صريحة للمتقدمين للوظائف، رغم أهمية الموهبة في إنجاح المؤسسات وتعزيز روح الشغف لدى الموظفين.
وأضاف شعيب أن إهمال الموهبة قد يؤدي بالمتقدم إلى النظر للوظيفة كمصدر دخل فقط، ما ينعكس سلبًا على فرص التطوير الذاتي والتقدم الوظيفي. وأكد أن على المؤسسات التي تعتمد تلك السياسة إعادة النظر في سياسات التوظيف لضمان إعطاء الأولوية للموهبة.
وتابع شعيب بأن بعض الشركات تتوجه في أغلب الأحيان لاختيار موظفين بناءً على أعمارهم، توفيراً للنفقات، حيث يُعطى الشباب نسبة أعلى من الوظائف مقارنة بأصحاب الخبرة (ممن قد يطلبون راتباً أعلى)، ما يؤدي إلى ضعف الفرص أمام أصحاب الأعمار المتقدمة في العثور على وظائف جديدة بعد فقدانهم لوظائفهم الحالية حتى وإن كانوا أصحاب موهبة.
عوامل الاختيار
من جهة أخرى، أوضح الباحث الاقتصادي ومحلل ذكاء الأعمال، ياسين أحمد، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن التوازن بين الموهبة والعمر في التوظيف يعتمد على مجموعة من العوامل المهمة، مشيرًا إلى أن الأولوية تكون غالبًا للكفاءة والقدرة على تحقيق قيمة مضافة للمؤسسة.
وبيّن أحمد أن العمر قد يشكل عائقًا في بعض الوظائف، لا سيما المناصب القيادية والإدارية التي تتطلب مستوى معينًا من النضج والخبرة، حيث لا يُفضَّل أن يكون المتقدم دون سن العشرين، بينما في وظائف أخرى مثل مندوب المبيعات وعمال التوصيل التي تتطلب حركة ونشاطًا، يكون تفضيل صغار السن هو الأرجح.
وأشار إلى أن عملية الاختيار تعتمد على طبيعة الوظيفة واحتياجات الشركة. فهناك وظائف تتطلب مهارات دقيقة وخبرة موسعة، مثل المناصب التقنية المتقدمة، التي تكون فيها الموهبة والخبرة أهم من العمر. وفي المقابل، هناك وظائف تتطلب نشاطًا ومرونة وقدرة على التحمل، ما يجعل العمر معيارًا مكملًا لمهارات المتقدم.
كما أوضح أحمد أن الشركات تسعى في كثير من الأحيان لتحقيق توازن بين فئات العمر المختلفة، حيث تستفيد من حيوية الشباب وحماسهم، وتستثمر في الخبرات المتراكمة للكبار بهدف توجيه وتطوير الفريق الجديد. وأكد أن بعض الشركات تفضل توظيف الكفاءات الشابة لتوظيف الابتكار والتكنولوجيا الحديثة، بينما شركات أخرى تضع خبرات العمل الطويلة في مقدمة معاييرها، لا سيما في القطاعات التي تعتمد على الاستقرار والمهارات العملية العالية.
#تكنولوجيا
#سام ألتمان