كتب – أحمد زكي : في قلب الريف المصري، وخصوصًا في صعيده الجنوبي، لا تزال البيوت الطينية تروي حكايات مقدسة على جدرانها. فحين يعود الحاج من مكة، لا يكتفي أهله بالاحتفال في الساحات، بل يُعلّقون فرحتهم على الجدران في شكل رسومات تحمل رموزًا دينية ومجتمعية غنية. الكعبة، الطائرة، بئر زمزم، الجِمال، والمسجد النبوي، كلها ترسم بألوان زاهية تخبرنا من هو صاحب هذا البيت وما الذي أنجزه.
هذه الظاهرة، رغم بساطتها، تُعبّر عن تعقيد اجتماعي وثقافي بالغ. إنها ليست فقط احتفاءً بالفريضة، بل تمثل بداية شكلٍ من أشكال التعبير البصري الشعبي الذي يوازي ما يُعرف اليوم بالجرافيتي. وبينما تحوّلت مدن العالم إلى منصات لفن الشارع، كان الريف المصري قد سبق ذلك منذ عقود، ولكن بروح تقليدية تنبع من الإيمان والعادات. في هذا التقرير، نستقصي أصول هذه الظاهرة، دلالاتها الفنية والاجتماعية، علاقتها بالسياحة، وسبل الحفاظ عليها في وجه الحداثة.
الجذور التاريخية والرمزية لرسومات الحج
ثقافة بصرية متجذرة في العقيدة
يرى الباحث في التراث الشعبي الدكتور محمد عبد الرحمن أن رسومات الحج بدأت في بدايات القرن العشرين، حين انتشرت الرحلات البحرية إلى مكة المكرمة، وارتبطت العودة بالحفاوة المجتمعية. كان الحاج يُستقبل وكأنه عاد من الجنة، وتُرسم رحلته بالكامل على جدران بيته.
أيقونات الحج المصور تشمل الرسومات عناصر ثابتة مثل.
الكعبة المشرفة، رمز أساسي يُرسم غالبًا في قلب اللوحة.
الطائرة أو الباخرة: كناية عن وسيلة السفر.
بئر زمزم: يُرسم كبئر يتدفق منه الماء، رمزًا للبركة.
الجِمال: تمثل التنقل بين المشاعر المقدسة.
الحاج ذاته: يظهر في لباس الإحرام أو جالسًا على الطائرة.
تُرفق الرسومات أحيانًا بعبارات مثل: “حج مبرور وسعي مشكور” أو “رجع الحاج فلان بالسلامة”، ما يجعلها وثيقة اجتماعية صريحة.
من الجدران الطينية إلى الجرافيتي الشعبي
مقارنة فنية مع الجرافيتي
فن الجرافيتي الحديث غالبًا ما يُصنف كفعل احتجاجي، أو كتعليق اجتماعي أو سياسي. بينما تختلف رسومات الحج في وظيفتها، فإنها تشترك معه في، استخدام الحائط كمساحة للتعبير.
المزج بين النص والرسم.
توصيل رسالة بصرية إلى المارة.
غير أن رسومات الحج تتفرد بأنها رسالة مجتمعية إيجابية واحتفائية، لا تحمل طابع الصراع بل التواصل.
هوية فنية محلية
الفنانون الشعبيون، مثل “الريس عبد الموجود” من قرية النخيلة بأسيوط، يؤكدون أن مهنتهم تنتقل بالوراثة. يقول: “أبويا كان بيرسم، وأنا كملت بعده. الجدران بتحكي، وإحنا بنكتب القصة بريشتنا”.
شهادات حية من أرض الواقع مقابلات مع الحجاج
السيد حامد، حاج من محافظة قنا، يروي: “أهم من العزومة، هو الرسم على الحيطة. كل اللي بيعدي يشوف إننا طلعنا الحج. الجدران دي سيرتنا الذاتية.”
مع الفنانين
الرسام الشعبي مصطفى عبد الغني من الأقصر يقول، “بنستخدم ألوان جير وصبغة، نرسم بسرعة، قبل ما الحاج يوصل. كل رسمة بتكون حسب قصة الحج بتاعه.”
الباحثين قالو.
الدكتورة نجلاء فهمي، أستاذة الفنون الشعبية، تعتبر هذا الشكل من الرسم “أول تعبير شعبي بصري متكامل في مصر، يمزج بين الفن والهوية والاحتفال، ويستحق التوثيق الرسمي باعتباره جزءًا من التراث غير المادي.
السياحة الثقافية والاقتصاد المحلي
الرسومات كجذب سياحي
بعض القرى مثل “العديسات” في الأقصر و”المنشأة” في سوهاج بدأت تجذب انتباه السياح والمصورين الباحثين عن الثقافة المحلية الأصيلة. وتعرض منظمات دولية مثل اليونسكو نماذج منها ضمن دراسات الفنون الشعبية.
فرص اقتصادية غير مستغلة
رغم القيمة الفنية والسياحية لهذه الجداريات، لا توجد حتى الآن مسارات سياحية منظمة لزيارتها، ولا يتم إدماجها في الحملات السياحية الرسمية، ما يُعد فرصة ضائعة لترويج “سياحة الهوية” أو “السياحة المجتمعية”.
التهديدات والتحديات
تآكل الرسومات بسبب التحديث المعماري، حيث تتحول البيوت الطينية إلى مبانٍ خرسانية لا تسمح بالرسم.
قلة الوعي لدى الأجيال الجديدة، الذين لا يرون في هذه الرسوم سوى “موضة قديمة”.
انقراض المهنة بسبب عدم توارثها بين الرسامين الجدد.
عدم توثيقها رسميًا في سجلات التراث أو الفن التشكيلي.
التحليل النهائي والاستنتاج
تُعدّ رسومات الحج على جدران البيوت الريفية في مصر شكلًا فنيًا شعبيًا نابعًا من صميم الهوية الدينية والاجتماعية للمنطقة. إنها ليست فقط فعل احتفال، بل طريقة توثيق بصرية شعبية سابقة لزمنها، سبقت الجرافيتي الحديث بروح محلية صادقة. هذه الرسومات تُمثل فرصة ذهبية لإعادة تعريف “الفن في المجال العام” من منظور عربي ومصري أصيل.
في ظل تراجع هذا التقليد، أصبح من الضروري تدخل المؤسسات الثقافية، لا فقط للحفاظ عليه، بل لتوظيفه كأداة سياحية وثقافية تعليمية، تُبرز ثراء الريف المصري وتحوّله إلى لوحة جدارية مفتوحة للعالم.
نهاية سعيدة وأمل في ذنب مغفور.
حين يعود الحاج من مكة، لا يحتاج إلى مذيع ولا إلى منشور على وسائل التواصل الاجتماعي. يكفي أن تقرأ الجدران. هناك، مرسومٌ عليه الطريق، الرحلة، العَبرة، والفرح. إنها جدران تتكلم، ولغتها الألوان وتاريخها، حجّة في وجه النسيان.

