كتب – أحمد زكي : لم تعد المتاحف مجرد مبانٍ مخصصة لعرض القطع الأثرية أو اللوحات الفنية، بل أصبحت مؤسسات ذات رسالة حضارية وإنسانية عميقة، تحفظ تاريخ الأمم، وتوثّق ذاكرة الشعوب، وتحمي هويتها من التآكل والضياع. في زمن تتعاظم فيه الأزمات وتتسارع التغيرات، تبرز المتاحف كحصون للثقافة، وفضاءات للتأمل والانتماء، تُعيد ربط الإنسان بجذوره وتفتح أمامه آفاق المستقبل.
المتاحف نبض الحضارات وسفراء الهوية.
تلعب المتاحف دورًا يتجاوز فكرة العرض والتوثيق، فهي أدوات تربوية وثقافية تسهم في بناء الوعي وتشكيل الشخصية الوطنية وتعزيز الانتماء. ومن خلال مقتنياتها النادرة ورسائلها الرمزية، تفتح المتاحف نافذة لفهم مراحل تطور الحضارات، وتمنح المجتمعات فرصة للتأمل في مسيرة الإنسانية عبر العصور.
ويكمن سحر المتاحف في قدرتها على الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، لتغدو منصات معرفية ومراكز إشعاع فكري. إنها ليست مجرد مرافق سياحية، بل رافد أساسي من روافد الهوية، تحفظ الذاكرة الجماعية من التلاشي، وتصون الكرامة الثقافية للأمم في أوقات الاستقرار، كما في لحظات الانهيار.
المتاحف المصرية نموذج في استعادة الذاكرة.
شهدت مصر في السنوات الأخيرة طفرة غير مسبوقة في قطاع المتاحف، تمثلت في إنشاء متاحف قومية حديثة وتطوير المتاحف الأثرية القديمة، لتكون أكثر مواكبة للعصر ومتطلباته التقنية والمعرفية. هذه النهضة لم تكن بهدف العرض فقط، بل لحمل رسالة أعمق: حماية الهوية المصرية من التشويه، وإعادة تقديمها كحاضنة للحضارات المتعاقبة.
وتُعد مشاريع مثل المتحف المصري الكبير، ومتحف الحضارة، ومتحف عواصم مصر، ومتاحف كفر الشيخ وشرم الشيخ والغردقة، من أبرز المبادرات الوطنية التي تسعى لتنشيط السياحة الثقافية، ونشر الوعي الحضاري، وتعزيز الدور التربوي للمتاحف في وجه موجات الغزو الفكري والانتحال الثقافي.
واجب الحماية وسلاح التوثيق.
حين تتعرض المجتمعات لحروب أو كوارث أو أزمات، تبقى المتاحف في الواجهة، ليس فقط لحماية مقتنياتها، بل لصون الذاكرة الجمعية من الفقد والنسيان. وفي مثل هذه الحالات، تتدخل إدارات المتاحف بتنفيذ ما يُعرف بـ”الإخلاء الثقافي”، حيث تُنقل القطع النادرة إلى أماكن آمنة، ويتم توثيقها بالكامل لتفادي ضياعها أو الاتجار بها.
وتُعد عمليات التوثيق الدقيقة، التي تشمل الصور والوصف الدقيق والأرقام التعريفية، وسيلة فعالة لاستعادة أي قطعة تُسرق أو تُهرب، وتُعد من أبرز أدوات مقاومة التجارة غير المشروعة في التراث.
في هذا السياق، أصبح التوثيق الرقمي والمسح ثلاثي الأبعاد خيارًا لا غنى عنه، حيث يوفر نسخًا رقمية دقيقة يمكن الاعتماد عليها في إعادة بناء القطع أو ترميمها عند الضرورة، ويُستخدم أيضًا في تطوير المتاحف الافتراضية كوسيلة للحفاظ على التراث وإتاحته للعالم في أي وقت ومن أي مكان.
التكنولوجيا في خدمة المتاحف.
ساهمت التكنولوجيا الحديثة في تحويل المتاحف إلى مؤسسات أكثر تفاعلًا مع الجمهور. لم تعد زيارة المتحف تقتصر على التواجد الجسدي، بل أصبح بالإمكان استكشافه افتراضيًا، والاطلاع على أرشيفاته الإلكترونية، والانخراط في تجارب تعليمية رقمية، مما وسّع دائرة التلقي وفتح أبواب المعرفة أمام فئات لم تكن تصل إليها في السابق.
كما أن بعض المتاحف باتت توثق شهادات الشهود والناجين من النزاعات والحروب، لربط المأساة الإنسانية بالسياق الثقافي، وتعزيز السردية التاريخية من منظور الشعوب، بما يحول المتاحف إلى أدوات مقاومة للمحو والتشويه.
المتاحف كرافعة للسياحة والتنمية.
إلى جانب دورها الثقافي والتربوي، تمثل المتاحف عنصرًا أساسيًا في التنمية السياحية والاقتصادية، فهي من أبرز عوامل الجذب للزوار الباحثين عن التجربة الثقافية الأصيلة. كما تسهم في تحريك قطاعات متعددة، من الفن إلى التعليم إلى الصناعات الإبداعية.
ولذا فإن دعم المتاحف، وتمكين العاملين فيها، وتعزيز بروتوكولات الطوارئ، وتطوير البنية التحتية التقنية، ليست ترفًا، بل ضرورة لحماية التراث وضمان استمراريته، ولتعزيز قدرة المجتمعات على التعافي والصمود، لا سيما في مواجهة التحديات المناخية والبيئية والنزاعات المسلحة.
نحو مستقبل يليق بالإرث الإنساني.
إن بقاء المتاحف نابضة بالحياة، قادرة على أداء رسالتها في أشد الأزمات، يتطلب رؤية بعيدة المدى، واستعدادًا دائمًا، وتعاونًا دوليًا حقيقيًا. فحماية التراث لا تقتصر على الدفاع عن الماضي، بل هي استثمار في الحاضر، ورهان على مستقبل مشترك يليق بكرامة الإنسان وذاكرته.
في النهاية، تظل المتاحف ليست مجرد صالات عرض، بل ذاكرة ناطقة، ورسائل حيّة تروي قصة الإنسان، وتدافع عن وجوده، وتمنحه الحق في أن يتأمل، ويتذكر، ويحلم.

إقرأ أيضاً :
وزيرة التضامن الاجتماعي تتابع تداعيات انهيار عقارين في حدائق القبة