اقتصاد الصين
في ظل التجاذبات الاقتصادية المتصاعدة بين بكين وواشنطن، يبرز الاقتصاد الصيني كلاعب مرن لا يتوقف عند حدود الرسوم الجمركية أو الضغوط السياسية؛ فبينما تستمر الإدارة الأميركية في فرض سياسات حمائية متشددة بقيادة الرئيس دونالد ترامب، تُظهر الصين قدرة لافتة على امتصاص الصدمات الخارجية، بفضل سياسات داخلية مدروسة وتحولات استراتيجية متقنة.
اتخذت بكين مسارات متعددة لتجاوز تلك التحديات، تراوحت بين توسيع الشراكات التجارية وتنويع الأسواق، مروراً بتعزيز الاستثمارات في الصناعات المتقدمة، وصولاً إلى اعتماد نموذج اقتصادي مزدوج يراهن على تنشيط الطلب المحلي إلى جانب الانفتاح الخارجي. وقد جعلت هذه المقاربة الاقتصاد الصيني أشد تماسكاً في وجه التقلبات الجيوسياسية والضغوط التجارية الأميركية.
وبينما تتباين التقديرات بشأن وتيرة النمو، يتفق الخبراء على أن الصين لم تعد رهينة لسوق واحدة أو لتوازنات تقليدية، بل باتت تملك هامش مناورة واسعاً سمح لها بالحفاظ على موقعها كمحرك رئيسي للاقتصاد العالمي.
ويشير تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن الاقتصاد الصيني ينمو بثبات رغم رسوم ترامب الجمركية.
وقد أظهرت الأرقام الرسمية نموا متواضعا في الربع الثاني مع تحول الصادرات إلى دول أخرى واستثمار بكين في التصنيع والبنية الأساسية.
- سجل الاقتصاد الصيني نمواً بوتيرة ثابتة في الربيع، وفقا للأرقام الرسمية، مدعوما بالاستثمار المحلي في المصانع والمشاريع الكبرى مثل خطوط السكك الحديدية عالية السرعة، واستمرار تدفق الصادرات في جميع أنحاء العالم.
- أعلن المكتب الوطني للإحصاء يوم الثلاثاء أن الاقتصاد الصيني نما بنسبة 1.1% بالمئة خلال الربع الثاني من العام، من أبريل إلى يونيو، مقارنةً بالأشهر الثلاثة السابقة. وإذا استمر هذا المعدل، فسينمو الاقتصاد بمعدل سنوي يبلغ حوالي 4.1 بالمئة، وهو أبطأ قليلاً من معدل النمو في الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام.
يُظهر تقرير الناتج المحلي الإجمالي الصيني كيف تحمّل اقتصاد البلاد، المُركّز على التصنيع، الرسوم الجمركية الباهظة التي فرضها الرئيس ترامب، والتي وصلت لفترة وجيزة إلى 145 بالمئة في أواخر أبريل وأوائل مايو.
وأظهرت بيانات تجارية صدرت يوم الاثنين أن صادرات الصين إلى الولايات المتحدة بدأت بالتعافي في يونيو، بعد أن توصل البلدان إلى هدنة في الرسوم الجمركية في منتصف مايو، لكنها لا تزال منخفضة.
ومع ذلك، قفزت صادرات الصين إلى دول أخرى، وخاصة السلع المرسلة إلى جنوب شرق آسيا ــ والتي يتم إعادة تصدير الكثير منها إلى الولايات المتحدة ــ وإلى أوروبا وأفريقيا.
انخفضت مبيعات التجزئة في الصين بشكل طفيف في يونيو مقارنةً بشهر مايو، حيث استمر الانهيار البطيء لسوق الإسكان في التأثير سلباً على إنفاق المستهلكين. وقد أبرز هذا الضعف اعتماد الصين المتزايد على الطلب الخارجي للحفاظ على ازدهار قطاعها الصناعي المتنامي باستمرار.
في الأشهر الثلاثة الأولى من العام، شهد الاقتصاد الصيني انتعاشاً بفضل تسارع وتيرة طلبات الشراء من قِبل العديد من المشترين الأجانب تحسبًا للرسوم الجمركية. وكان المحللون قد توقعوا أداءً أضعف في الربع الثاني نتيجةً لذلك، لكن ذلك لم يحدث.
كان الناتج قوياً بما يكفي لدرجة أن بعض المحللين بدأوا برفع توقعاتهم للعام بأكمله. رفعت شركة أبحاث، تُدعى أكسفورد إيكونوميكس، الأسبوع الماضي توقعاتها لعام 2025 إلى 4.7 بالمئة، مقارنةً بتقديرها السابق البالغ 4.3 بالمئة.
نمو مستقر
الكاتبة الصحافية الصينية سعاد ياي شين هوا، تقول لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- رغم استمرار الضغوط الناتجة عن السياسات الحمائية الأميركية، حافظ الاقتصاد الصيني على نموه المستقر خلال النصف الأول من العام 2025.
- جاء ذلك بدفع من مرونة الاقتصاد الهيكلية، وتوسيع مجالات النمو الجديدة، ودقة السياسات الاقتصادية.
- كما تمكنت الصين من تطوير نظام دفاعي متعدد المستويات لاحتواء الصدمات الخارجية.
- من أبرز العوامل التي دعمت هذا الأداء، تراجع التوتر التجاري مع الولايات المتحدة نسبياً، بعد توافقات جنيف التي أفضت إلى إلغاء الجزء الأكبر من الرسوم الإضافية، ما خفف الضغط على الصادرات الصينية.
- كما حافظت الصين على نفوذها في سلاسل التوريد العالمية، خاصة في قطاع النحاس.
وتضيف: في المقابل، بات الطلب المحلي المحرك الأساسي للنمو، مع تطور هيكلة الاستهلاك واتساع الإنفاق على الأجهزة الذكية والخدمات، وخصوصًا في قطاعات السياحة والصحة والتكنولوجيا. وسجّل قطاع الخدمات قفزات لافتة، مما عزز توازن الاقتصاد في ظل تقلبات الأسواق الخارجية.
وعلى صعيد التصنيع، حققت الصناعات التحويلية عالية التقنية نمواً متصاعداً، مع اختراقات مهمة في مجالات مثل أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي والطيران. كما استفادت التجارة الخارجية من توسيع العلاقات مع دول مبادرة “الحزام والطريق” وتطور التجارة الإلكترونية العابرة للحدود، مدعومة بمنصات رقمية كبرى مثل SHEIN وTemu.
وووفق الكاتبة الصحافية الصينية، فقد تكاملت هذه الجهود مع سياسة اقتصادية دقيقة دعمت المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وسهلت بيئة الأعمال.
وتعتمد الصين على نموذج “الدورة المزدوجة” الذي يمزج بين الطلب المحلي والانفتاح الخارجي والابتكار، مما مكنها من تجاوز اضطرابات الرسوم الجمركية وبناء ثلاث شبكات حماية: تنويع الأسواق، الاعتماد الذاتي، والمرونة في صنع السياسات.
التدابير التحفيزية
ونقل تقرير لشبكة “إن بي سي نيوز” عن كبير الاقتصاديين في وحدة الاستخبارات الاقتصادية،تيان تشين شو، الذي توقع أن يمتنع صناع السياسات عن طرح تدابير تحفيزية إضافية في اجتماع قادم للمكتب السياسي للحزب الشيوعي في أواخر يوليو، قوله: “
- على الرغم من أن النمو من المرجح أن يتباطأ في النصف الثاني من العام، فإن هدف الحكومة البالغ 5 بالمئة قد يكون في متناول اليد”.
- بكين قد تؤجل التحفيز الكبير حتى سبتمبر للقيام بدفعة أخيرة نحو تحقيق هدف النمو إذا تراجع الزخم.
وكان مستشار بنك الشعب الصيني هوانغ يي بينغ، قد ذكر في تقرير نشر الأسبوع الماضي مع اثنين من خبراء الاقتصاد الآخرين، أن السلطات بحاجة إلى إضافة ما يصل إلى 1.5 تريليون يوان في التحفيز المالي لتحفيز الإنفاق الأسري وتعويض التأثيرات الناجمة عن الرسوم الجمركية الأميركية، فضلا عن خفض أسعار الفائدة بشكل أكبر.
وقال رئيس وكبير الاقتصاديين في شركة بينبوينت لإدارة الأصول، تشيوي تشانغ: “إذا تراجع خطر الحرب التجارية على الأقل في الأمد القريب، فإن فرصة تقديم حافز مالي كبير في الصين تنخفض أيضاً”.
تنويع الشراكات التجارية
يقول مدير مركز رؤية للدراسات، الدكتور بلال شعيب، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الصين بدأت منذ سنوات في إعادة هيكلة استراتيجيتها التجارية عبر البحث عن أسواق بديلة.
ويوضح أن حجم التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة شهد تراجعاً ملحوظاً؛ نتيجة السياسات الحمائية التي تتبعها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
في ولايته الأولى، فرض ترامب رسوم جمركية صارمة على المنتجات الصينية. ورغم التوصل إلى اتفاق تجاري في نهاية عام 2019، إلا أن تنفيذه تعطل بفعل جائحة كورونا، ثم جاءت إدارة الرئيس بايدن بموقف أكثر توازناً، إلا أن بكين كانت قد أدركت المخاطر المترتبة على الاعتماد الزائد على السوق الأميركية.. إلى أن عاد ترامب مجدداً بسياساته الحمائية.
بلغ إجمالي تجارة السلع الأميركية مع الصين 582.4 مليار دولار في عام 2024، بحسب التقديرات الأميركية الرسمية. وبلغت صادرات السلع الأميركية إلى الصين 143.5 مليار دولار في العام نفسه، بانخفاض قدره 2.9% (4.2 مليار دولار) عن عام 2023.
وبلغ إجمالي واردات السلع الأميركية من الصين 438.9 مليار دولار في عام 2024، بزيادة قدرها 2.8% (12.1 مليار دولار ) عن عام 2023. وبلغ عجز تجارة السلع الأميركية مع الصين 295.4 مليار دولار في عام 2024، بزيادة قدرها 5.8% (16.3 مليار دولار) عن عام 2023.
الصين وأميركا تحاصران القارة الأوروبية
ويؤكد شعيب أن بكين بدأت في تنويع وجهات صادراتها، وركزت بشكل خاص على القارة الإفريقية، نظراً لقوتها السكانية التي تتجاوز 1.4 مليار نسمة، ما يعادل نحو 18 بالمئة من سكان العالم، وهو ما يفتح فرصاً كبيرة للتوسع التجاري. كما توجهت الصين نحو أسواق بديلة في آسيا والاتحاد الأوروبي، والتي تُعد ذات جدوى اقتصادية مقارنة بالسوق الأمريكية.
ويشير إلى أن الرسوم الجمركية المفروضة على الصين لا تضر الاقتصاد الصيني بالدرجة الأولى، بل تلقي بأعباء مالية أكبر على المستهلك الأميركي، في ظل الارتفاع الكبير في أسعار السلع المستوردة، خاصة أن الاقتصاد الأميركي يعاني من عجز هيكلي في الميزان التجاري.
مازن سلهب: الصين لا تريد أن تخسر السوق الأميركية