السيارات الألمانية – صناعة
لطالما اعتُبرت ألمانيا المحرك الاقتصادي لأوروبا والنموذج المثالي في الاعتماد على الصناعات الثقيلة والصادرات عالية الجودة. غير أن هذا النموذج، الذي لطالما تغنّى به الأوروبيون، يبدو اليوم في مواجهة أزمة بنيوية عميقة.
ففي وقت يُنتظر فيه من برلين أن تواصل ريادتها الاقتصادية في القارة، تسجّل المؤشرات الاقتصادية تراجعاً لافتاً في أدائها، ما يثير تساؤلات جدية حول قدرتها على الحفاظ على موقعها التنافسي في سوق عالمي سريع التغير.
تقرير حديث للبنك المركزي الألماني سلّط الضوء على أرقام صادمة: ألمانيا فقدت 18 بالمئة من حصتها في الصادرات العالمية بين عامي 2021 و2024، في استمرار لمنحنى التراجع الذي بدأ منذ 2017. ومع استمرار هذا الانحدار دون مؤشرات واضحة على تعافٍ قريب، تبدو “الماكينة الألمانية” وكأنها في مفترق طرق: إما إعادة ابتكار نفسها، أو القبول بتراجع تدريجي عن مركزها العالمي.
تآكل القدرة التصديرية: الأرقام لا تُجامل
عند النظر في عمق الأرقام، تتضح معالم الأزمة الهيكلية. فبينما كانت ألمانيا تسيطر على نحو 9 بالمئة من مجمل الصادرات العالمية في عام 2021، تراجعت هذه الحصة إلى 6.4 بالمئة فقط بحلول 2024. ولا يقتصر التراجع على أرقام الصادرات الإجمالية، بل يطال قطاعات استراتيجية لطالما مثّلت عماد الاقتصاد الألماني.
فعلى سبيل المثال، قطاع السيارات، الذي يُعد من أبرز رموز “العلامة الاقتصادية الألمانية”، شهد تراجعاً من 20 بالمئة من حصة السوق العالمية في 2021 إلى 18 بالمئة في 2023. وفي عالم يتميز بتسارع التحولات التكنولوجية وصعود المنافسين الآسيويين، يبدو هذا التراجع مؤشراً مقلقاً على تراجع تنافسية الصناعة الألمانية.
رسول: ألمانيا من أكبر المتضررين من استمرار الأزمة التجارية
أزمة داخلية قبل أن تكون خارجية
ورغم ما قد يُفترض من تأثير لتباطؤ الاقتصاد العالمي أو الحروب التجارية على هذا التراجع، إلا أن الباحث الاقتصادي في جامعة ستوكهولم، ريان رسول، يرى أن الأزمة ألمانية الجذور بالدرجة الأولى. خلال حديثه إلى برنامج “بزنس مع لبنى“ على قناة سكاي نيوز عربية، أشار رسول إلى أن ضعف الأداء لا يُعزى فقط إلى تقلص الطلب الخارجي، بل يرتبط أساساً بمشكلات داخلية مثل ارتفاع تكاليف الطاقة، تعقيد الإجراءات البيروقراطية، نقص العمالة الماهرة، وبطء التحول الرقمي.
ويؤكد رسول أن الاقتصاد الألماني يعاني من “تآكل داخلي صامت” يُفقده قدرته على التكيّف مع المعطيات الجديدة، وسط تقاعس سياسي عن إحداث التحولات الضرورية.
بين الصين وأميركا: الصناعة الألمانية في مهب الحروب التجارية
منذ سنوات، ظلت ألمانيا تحاول اللعب على التوازن بين الصين كشريك اقتصادي رئيسي، والولايات المتحدة كحليف سياسي واستراتيجي. إلا أن تصاعد التوترات التجارية بين العملاقين دفع برلين إلى قلب العاصفة. ومع تصاعد التعريفات الجمركية والقيود المفروضة على سلاسل الإمداد العالمية، وجدت ألمانيا نفسها مكشوفة اقتصادياً، خاصة وأن صناعاتها الثقيلة تعتمد بشكل شبه كامل على الاستقرار التجاري العالمي.
كما أن تحوّل الصين من شريك تجاري إلى منافس صناعي صاعد بات يمثل تحدياً كبيراً. لم تعد الصين فقط سوقاً تستورد المعدات والسيارات الألمانية، بل أصبحت قادرة على إنتاج منتجات عالية الجودة وبأسعار أقل، ما يسحب البساط تدريجياً من تحت أقدام الصناعة الألمانية في الأسواق العالمية.
التحول الرقمي: قطار لم تلحق به ألمانيا بعد
وفق تحليل رسول، تُعاني ألمانيا من تأخر ملحوظ في رقمنة اقتصادها، وهي الفجوة التي تتسع كل يوم مقارنة بدول مثل كوريا الجنوبية وتايوان. فبينما تتسابق هذه الدول نحو تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي وأتمتة العمليات الصناعية، ما تزال كبريات الشركات الألمانية، مثل سيمنس، تُكافح للحفاظ على مواقعها في قطاعات تشهد ثورة تكنولوجية عميقة.
حتى العلامات التجارية الألمانية الكبرى، كـأديداس وبوما، قررت نقل جزء من إنتاجها إلى الخارج لتجنب القيود التنظيمية وخفض التكاليف، وهو مؤشر على أن البنية التحتية التشريعية الألمانية باتت تُعيق الاستثمار بدلاً من أن تحفّزه.
الشيخوخة الديموغرافية ونقص الكفاءات
ليست البنية التحتية التكنولوجية وحدها ما يؤرق ألمانيا، بل أيضاً تركيبتها السكانية. يشير ريان رسول إلى أن الشيخوخة المتسارعة للسكان ونقص اليد العاملة الماهرة باتا عاملين رئيسيين يعرقلان تطور الصناعات الحديثة.
ورغم محاولات الحكومة الألمانية استقطاب مهاجرين ذوي كفاءات، فإن التعقيدات القانونية والبيروقراطية تشكل عائقاً أمام مرونة سوق العمل. لا يكفي فتح الباب للمهاجرين؛ ما لم يُرفق ذلك بإصلاح تشريعي جذري يعزز من دمجهم السريع في الاقتصاد، فإن فجوة المهارات ستتسع أكثر، ما يهدد مستقبل الصناعات التقنية المتقدمة.
تفكك النموذج الاقتصادي الكلاسيكي
لعلّ من أخطر ما تواجهه ألمانيا اليوم هو انهيار “النموذج الرباعي” الذي كان يشكّل أساس ازدهارها الاقتصادي، والذي شرح تفاصيله ريان رسول على النحو التالي:
- الطاقة الرخيصة من روسيا: انتهت مع حرب أوكرانيا والعقوبات.
- سوق التصدير الصينية الكبرى: أصبحت خصماً بدل أن تكون حليفاً.
- الحماية العسكرية الأمريكية المجانية: تراجعت مع تغير الأولويات الاستراتيجية لواشنطن.
- العمالة الرخيصة من أوروبا الشرقية: لم تعد متاحة بنفس الزخم بسبب تغيرات اقتصادية واجتماعية.
تفكك هذه الركائز يجعل من الصعب استمرار النموذج الألماني التقليدي كما هو، ما يفرض إعادة التفكير جذرياً في المنظومة الاقتصادية برمتها.
الشلل السياسي في قلب أوروبا
الأزمة الاقتصادية الألمانية تتزامن مع تصدعات داخلية في الاتحاد الأوروبي، خاصة بين الدول الشمالية بقيادة ألمانيا، التي تُشدد على الانضباط المالي، والدول الجنوبية التي تطالب بمرونة مالية أكبر ودعم استثماري واسع النطاق.
هذا الانقسام يُصعّب على برلين اتخاذ خطوات حاسمة في ملفات الإنفاق والتحفيز الاقتصادي، ويزيد من تردد صانعي القرار الألمان في المضي بإصلاحات هيكلية، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى قرارات جريئة وسريعة.
هل يمكن إنقاذ الماكينة؟ فرص التحول قائمة
رغم الصورة القاتمة التي ترسمها الأرقام والتحليلات، يرى ريان رسول أن ألمانيا ما تزال تملك الأدوات اللازمة للعودة إلى الساحة التنافسية. فبفضل قوتها العلمية والبحثية، وبنيتها الصناعية الراسخة، يمكن لألمانيا أن تعود إلى الريادة إذا استثمرت بكثافة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة النظيفة والتكنولوجيا الحيوية.
لكن ذلك لا يمكن أن يتحقق دون شجاعة سياسية لإحداث إصلاحات هيكلية جذرية، تتضمن:
- تسريع وتيرة التحول الرقمي.
- تحسين بيئة الاستثمار عبر تبسيط البيروقراطية.
- إصلاح قوانين العمل والهجرة لجذب الكفاءات.
- إعادة تحديد الأولويات الاقتصادية بعيداً عن النموذج الصناعي التقليدي.
على مفترق تاريخي
الاقتصاد الألماني، الذي شكّل لعقود طويلة قاطرة النمو الأوروبي، يقف اليوم على مفترق طرق حاسم. فإما أن تنجح برلين في تجاوز أزماتها البنيوية وتعيد تشكيل نموذج اقتصادي يتناسب مع معطيات القرن الحادي والعشرين، أو تواصل الانحدار نحو فقدان مركزها القيادي.
التحليل الذي قدّمه الباحث ريان رسول لا يخلو من بصيص أمل، لكنه يضع الأصبع على الجرح: ألمانيا تحتاج إلى ما هو أكثر من النيات الطيبة والسياسات المؤقتة. إنها بحاجة إلى رؤية استراتيجية شجاعة تعيد الحياة إلى ماكينة بدأت تفقد زيتها.
ويبقى السؤال: هل تمتلك برلين الإرادة السياسية والعزم الاقتصادي لإعادة تشغيل هذه الماكينة؟ الزمن، كما يقول رسول، هو من سيُجيب.
أوروبا تفكر في معاقبة ترامب بسلاحها الأقوى