الوقود الأحفوري
في السنوات الأخيرة، انشغل العالم بمفهوم ذروة الطلب على النفط باعتباره محطة فاصلة في تاريخ الطاقة، حيث كان يُعتقد أن البشرية ستصل سريعًا إلى لحظة التراجع في استهلاك الوقود الأحفوري، لتبدأ رحلة لا عودة عنها نحو الطاقة المتجددة. لكن التطورات الأخيرة، سواء على مستوى البيانات أو التحليلات، تشير إلى أن هذا التصور كان مبالغًا فيه، وأن النفط سيبقى في صلب مزيج الطاقة لعقود طويلة.
وكالة الطاقة الدولية.. مراجعة مفاهيم
في وقت سابق، توقعت وكالة الطاقة الدولية أن الطلب على النفط والغاز والفحم سيبلغ ذروته قبل نهاية العقد الحالي، أي بحلول عام 2029، لتبدأ بعدها مرحلة الانحدار. غير أن مسودة جديدة للوكالة – حصلت عليها وكالة بلومبرغ – نسفت هذه الفرضية، مؤكدة أن الطلب على النفط والغاز سيواصل النمو حتى عام 2050 ليصل إلى 114 مليون برميل يوميًا، مقارنة بتقديرات سابقة لم تتجاوز 93 مليون برميل. أما الفحم، ورغم التوقعات ببلوغه الذروة في ثلاثينيات هذا القرن، فإن استهلاكه سيبقى أعلى بـ50بالمئة من التقديرات السابقة بحلول 2050.
هذه الأرقام تعكس حقيقة أن التحول الطاقي ليس “انتقالًا” بالمعنى الحرفي، بل “إضافة للطاقة”، كما تصف بلومبيرغ، حيث إن مصادر الطاقة المتجددة لا تحل مكان النفط والغاز والفحم، وإنما تضاف إليها لتلبية الطلب المتزايد عالميًا.
رؤية الشركات الكبرى.. إكسون موبيل مثالًا
من جانبها، توقعت إكسون موبيل في تقريرها حول آفاق الطاقة 2050 أن يصل الطلب على النفط إلى 105 ملايين برميل يوميًا في السيناريو الأساسي، و120 مليون برميل يوميًا في سيناريو متفائل. هذه الأرقام، وإن كانت أقل قليلًا من تقديرات وكالة الطاقة الدولية، إلا أنها تعكس اتجاهًا واحدًا: النفط لن يختفي من المشهد الطاقي، بل سيظل ضرورة للنقل، والصناعة، وإنتاج المواد الأولية.
تصريحات باميلا مونجر: لا أحد يملك التنبؤ
قالت باميلا مونجر، المحللة الرئيسية لأسواق الطاقة في “فورتكسا”، خلال حديثها إلى سكاي نيوز عربية، إنه لا يمكن لأي جهة التنبؤ بموعد بلوغ ذروة الطلب على النفط. وأكدت أن الاستهلاك سيواصل الصعود بالفترة المقبلة، محذرة في الوقت نفسه من ضعف الاستثمارات في القطاع.
وأضافت مونجر: “أنا لا أعتقد أن بإمكان أي أحد توقع متى سيبلغ الطلب على النفط ذروته أو يتراجع، خاصة نظراً للأوضاع الحالية في السوق التي تعد صعبة، لكن يمكن أن نشهد عكس ذلك فيما يتعلق بفقدان الوقود الأحفوري، خصوصًا مع التراجع في الاستثمار في مجالات التكرير”.
فورتكسا: الطلب على النفط في مسار صعودي
السياسة ودورها في المشهد
مونجر شددت على أن التوقعات يمكن أن تكون مغايرة من هنا إلى عشر سنوات، إذ يعتمد الأمر على السياسات الحكومية التي تتغير بشكل دوري، لاسيما في الولايات المتحدة التي تعد من أكبر مستهلكي النفط. هذا العامل السياسي يضيف مستوى آخر من التعقيد على سوق الطاقة العالمي.
تحديات تتعلق بالمخزونات
وحذرت مونجر من أنه ليس هناك مخازن كافية لسد الهوة بين العرض والطلب، ما قد ينعكس مباشرة على أسواق الطاقة. وأشارت إلى أن النقل والاعتماد الكبير على النفط والوقود الأحفوري يجعلان أي خلل في الإنتاج أو التخزين عاملًا مؤثرًا بشدة على الأسعار.
الاقتصاد العالمي والطلب المتزايد
ترى مونجر أن تنامي الاقتصاد العالمي، خصوصًا في الدول النامية، يعني إقبالًا متزايدًا على الطاقة منخفضة التكلفة. هذا الطلب سيبقى مدعومًا من الحكومات، باعتباره محركًا مهمًا للنمو الاقتصادي.
هل انتهت أسطورة ذروة الطلب على النفط؟
العوامل الجيوسياسية
العوامل الجيوسياسية والأحداث غير المتوقعة تشكل بدورها عنصرًا أساسيًا في تحديد مسار الطلب على النفط. تقول مونجر: “هناك عديد العوامل التي تؤثر في هذا الملف، على غرار العوامل الجيوسياسية والأحداث التي لا يمكن التنبؤ بها”، مضيفة أن التوقعات على المدى الطويل تبقى صعبة في ظل هذه المتغيرات.
ضعف الاستثمار في التكرير
وتابعت مونجر أن السنوات العشر الماضية شهدت نوعًا من الغياب للاستثمار في مجال الوقود والتكرير، ما سيؤثر على الإنتاج مستقبلًا. وأشارت إلى أن الأسعار الحالية، التي تتراوح عند حدود 65 دولارًا للبرميل، مرشحة للارتفاع بحسب بعض التقديرات، غير أن عدم اليقين يبقى السمة الأبرز في هذه المرحلة.
أسعار مرجعية وتأثير السياسة الأمريكية
وأضافت أن مستوى 55 دولارًا للبرميل يعد السعر المرجعي الذي ترغب الولايات المتحدة في اعتماده. وقالت إن اقتراب الأسعار من هذا المستوى قد يؤدي إلى تغييرات في توجهات المنتجين. وأشارت أيضًا إلى أن هذا كله يحدث في ظل خطاب سياسي متغير، على غرار ما تحدث عنه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
النفط كضرورة لا كخيار
المعطيات جميعها تكشف أن النفط لا يزال يُعامل كضرورة عالمية، لا كخيار يمكن الاستغناء عنه. استمراره في الواجهة لا يعود فقط إلى قصور البدائل، بل أيضًا إلى مرونته وقدرته على مواكبة النمو العالمي. في ظل هذا الواقع، يصبح السؤال الأساسي: كيف سيدير العالم تزايد الطلب على النفط في وقت يرفع فيه شعار خفض الانبعاثات؟
التقديرات المتباينة، تصريحات الخبراء، والمعطيات الرقمية كلها تشير إلى مسار واحد: الحديث عن نهاية وشيكة لحقبة النفط قد لا يكون إلا وهماً. فالطلب على النفط والغاز والفحم لا يزال في صعود، والتحدي الحقيقي يكمن في إدارة هذا الصعود، وتأثيراته على الاستثمارات، السياسات، والاقتصاد العالمي ككل.