عندما يطرح النجم عمرو دياب ألبوماً جديداً، لا تكون المسألة مجرد إضافة رقمية في مسيرته، بل محطة تُعيد تشكيل خارطة الموسيقى.
“الهضبة” ليس لقباً فنياً بقدر ما هو توصيف دقيق لفنان تجاوز حدود الزمن، وصنع مدرسة خاصة، لا تنتمي إلى جيله فقط، بل لكل جيل يأتي من بعده.
مع ألبومه الجديد “ابتدينا”، يؤكد دياب أن النجومية الحقيقية لا تُقاس فقط بعدد الأغنيات أو سنوات الحضور، بل بالقدرة المستمرة على إعادة اختراع الذات.
في زمن يستهلك الأسماء بسرعة، لا يزال هو الرقم الصعب، القادر على تصدّر المنصات، وتحقيق الملايين، والأهم من ذلك مفاجأة جمهوره من حيث لا يتوقّع.
“ابتدينا” ليس مجرد عنوان لألبوم جديد من عمرو دياب، بل هو تصريح فني من نجم لا يزال، بعد أكثر من أربعة عقود، يملك شغف البدايات وحماس التجربة الأولى.
حين يختار دياب هذا العنوان، فهو يعلن أن لكل مرحلة في مسيرته صوتاً جديداً، وأن التجديد بالنسبة له ليس خياراً، بل سمة أساسية.
بهذا الألبوم، يثبت دياب مجدداً أنه ليس فنان مرحلة، بل صاحب مشروع موسيقي طويل النفس، يتجدّد في الشكل دون أن يفقد الجوهر. فمن دمج الأجيال، إلى عودة التعاونات التاريخية، إلى التنقل بين الرومانسي والفلكلوري والشبابي، يأتي “ابتدينا” كتجسيد حي لفنان يعرف جمهوره، لكنه لا يكرّر نفسه من أجل إرضائه.
أرقام تتكلم عن نفسها
الألبوم يضم 15 أغنية هي خطفوني، يلا، إشارات، قفلتي اللعبة، خبر أبيض، ما تقلقش، بابا، حبيبتي ملاك، هلونهم، يا بخته، ابتدينا، شايف قمر، دايما فاكر، ارجعلها، وماليش بديل، واستطاع منذ أيامه الأولى أن يحقق انتشاراً لافتاً على صعيد عالمي، فقد احتل المركز السابع في قائمة أكثر الألبومات استماعاً على منصة “سبوتيفاي”، ودخل ترتيب “آي تيونز” العالمي في المرتبة 79، كما جاء ضمن قائمة “توب 200” في الولايات المتحدة.
في الشرق الأوسط تصدرت أغانيه قوائم الاستماع في أكثر من عشر دول، بينها لبنان ومصر والسعودية والإمارات، وعلى أنغامي، سجل الألبوم أكثر من 33 مليون استماع، بينما تجاوزت مشاهداته على يوتيوب 50 مليون خلال فترة قصيرة.
يُعدّ ألبوم “ابتدينا” ثمرة تعاونات موسيقية واسعة جمعت عمرو دياب مع نخبة من الشعراء والملحنين البارزين، فقد كتب كلمات أغنيات الألبوم كلّ من: تامر حسين، بهاء الدين محمد، أمير طعيمة، منّة القيعي، أيمن بهجت قمر، ملاك عادل، مصطفى حدوتة، ومحمد القاياتي. أما الألحان فحملت توقيع عمرو مصطفى، عزيز الشافعي، محمد يحيى، إسلام زكي، شادي حسن، وليد سعيد، وأحمد إبراهيم، إضافةً إلى ألحان “الهضبة” نفسه.
دمج الأجيال
لكن الأرقام، رغم قوتها، لم تكن وحدها ما ميّز الألبوم، بل حمل “ابتدينا” روح عائلية، حيث ظهر عبد الله وجنا، إبنا عمرو دياب، في أغنيتين مختلفتين. في “خطفوني”، تغني جنا مقاطع باللغة الإنكليزية إلى جانب والدها، ما منح الأغنية بُعداً شبابياً يخاطب جمهوراً مختلفاً، مع الإشارة إلى ان مغني الراب بدر يغني في “خطفوني” أيضاً.
بينما شارك عبد الله في أغنية “يلا”، وجاءت كمحاولة واعية لدمج الأجيال ومخاطبة شريحة جمهور تنجذب للغات والإيقاعات العصرية. هذه المشاركات لم تكن مجرّد ظهور عابر لأبناء “الهضبة”، بل بدت خطوة محسوبة نحو بناء هوية فنية متعددة الأبعاد، حيث يفتح عمرو دياب الباب لجيل جديد، دون أن يتخلى عن صوته الخاص.
المصالحة التي أعادت الروح إلى التعاون الفني
شهد ألبوم “ابتدينا” لحظة فارقة في مسيرة عمرو دياب، حيث عاد للتعاون مع الملحن الشهير عمرو مصطفى بعد سنوات من القطيعة الفنية بينهما، العلاقة التي شهدت توقفاً دام أعواماً عادت من جديد بعد الأزمة الصحية التي تعرض لها مصطفى، وكان دعم دياب له نقطة تحول أعادت التواصل والتعاون بينهما.
أسهم عمرو مصطفى في تلحين أغنيتين بارزتين في الألبوم هما الأغنية الرئيسية “ابتدينا” وأغنية “خطفوني”.
على مدار تاريخ التعاون بين دياب ومصطفى، قدما أكثر من 45 أغنية معاً منذ بداية العلاقة الفنية في عام 1999، منها أعمال شهيرة مثل “أعمل إيه” و”خليك فاكرني” و”أحبك أكرهك” و”العالم الله” و”أنا أكتر واحد بحبك” و”بتخبي ليه” و”هيعيش يفتكرني”.
هذا التعاون المستمر يعكس قوة الرابط الفني بين دياب ومصطفى، وقدرتهما على تقديم أعمال تلامس الجماهير وتواكب تطلعاتهم، مؤكدين أن المصالحة الفنية ليست فقط إعادة علاقات شخصية بل مصدر إبداع متجدد.
تامر حسين شريك النجاح
أما على مستوى الكلمات، فقد واصل الشاعر تامر حسين هيمنته على النصوص التي يغنيها دياب، بمشاركته في خمس أغنيات في الألبوم. العلاقة بين دياب وحسين لم تعد مجرد تعاون، بل تحولت إلى شراكة طويلة الأمد، بدأت منذ أغنية “وياه” عام 2009، وامتدت لتصبح واحدة من أنجح العلاقات بين شاعر ومغنٍ في الموسيقى، ويبدو أن حسين بات يعرف تماماً كيف يكتب لصوت عمرو دياب، وكيف يوازن بين رومانسية الأغاني الكلاسيكية ومفردات الجيل الجديد.
تعاون قيّم مع أيمن بهجت قمر
ولم يغب الشاعر أيمن بهجت قمر عن المشهد، فكتب ثلاث أغنيات أبرزها “هلونهم”، التي بدت مختلفة في مضمونها عن الصورة المعتادة لأغاني دياب، حيث تناولت الخذلان العاطفي بطريقة واقعية، بالإضافة إلى “إشارات” و”خبر أبيض”، اللتين مزجتا بين الإحساس العاطفي والطابع الحواري في الكتابة، وهو أسلوب يشتهر به قمر.
بين الحداثة والتراث: أغنية “بابا” نموذج للحفاظ على الفلكلور
رغم توجه الألبوم العام نحو الأغاني السريعة والإيقاعات الحديثة، لم يغفل دياب العودة إلى الجذور الشرقية، فقد جاءت أغنية “بابا” لتقدم مزيجاً من الإيقاع الشعبي والمزمار الصعيدي والكلمات البسيطة القريبة من الشارع المصري، في ردٍ غير مباشر على الانتقادات التي تتهمه بالابتعاد عن الأغنية المصرية الأصيلة. الأغنية بدت كجسر يصل بين التراث والصوت المعاصر، وأثبتت أن دياب لا يزال يملك القدرة على التنقل بين الأنماط دون أن يفقد هويته.
تكرار الكلمات خيار فني ذكي
اللافت أن بعض الأغاني في الألبوم اعتمدت على التكرار اللفظي المكثف، كما في “شايف قمر” التي تكررت فيها كلمة “قمر” أكثر من أربعين مرة، أو في “خطفوني” حيث تتكرر كلمات مثل “حبيبي” و”خطفوني” بشكل ملحوظ. ورغم أن هذا الأسلوب يُنتقد أحياناً باعتباره مبالغة، إلا أنه يعكس استراتيجية متعمدة لجعل الأغنية سهلة الالتصاق بالذاكرة، وهو ما يتقنه دياب جيداً منذ بداياته.
ألبوم “ابتدينا” ليس فقط استعراضاً لقوة دياب التجارية، بل أيضاً محاولة لإعادة تقديم نفسه بتجدد، من دون الانفصال عن مسيرته الطويلة. هو ألبوم يخلط العاطفة بالتسويق، الفلكلور بالتجريب، ويمنح لكل مستمع ما يبحث عنه سواء الحنين أو الإيقاع أو التجديد أو حتى مجرد اسم عمرو دياب وهو كافٍ أحياناً.