بقلم: محمد نشبت – يورونيوز
نشرت في
اعلان
وبحسب التقديرات، كان نحو مليون فلسطيني يقيمون في مدينة غزة قبل بدء الهجوم الإسرائيلي الأخير، حيث أصدر الجيش أوامر إخلاء جماعية ودعا المدنيين للتوجه إلى منطقة المواصي غربي خان يونس، التي حددها “منطقة إنسانية”. إلا أن هذه المنطقة، إلى جانب المحافظة الوسطى، لم تسلم من القصف، ما أسفر عن عشرات القتلى من النازحين واللاجئين داخل خيام الإيواء.
نزوح قسري بلا ملاذ آمن
تكررت مشاهد القوافل البشرية المتجهة جنوباً، وسط نقص حاد في أماكن الإيواء والغذاء والمياه، وتفشي الأمراض نتيجة غياب الرعاية الصحية.
وكشف المكتب الإعلامي الحكومي في غزة عن انهيار 125 ألف خيمة من أصل 135 ألفاً خلال العامين الماضيين بفعل القصف والعوامل الطبيعية، مؤكداً أن “93% من خيام النزوح لم تعد صالحة للإقامة”.
ورغم إعلان إسرائيل مراراً عن تحديد مناطق “آمنة”، يقول المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان إن الوقائع تثبت عكس ذلك، إذ استُهدفت الأسواق ومراكز المساعدات وأماكن تجمع النازحين، في “جرائم حرب واضحة تهدف للترويع والإبادة الجماعية”، بحسب توصيفه.
خطة عسكرية لـ “التفريغ والاحتلال”
كشفت وسائل إعلام عبرية، من بينها صحيفة “هآرتس”، أن الخطة الإسرائيلية التي صادق عليها الكابينت في أغسطس/ آب الماضي تقوم على السيطرة التدريجية على مدينة غزة وتهجير سكانها إلى الوسط والجنوب، ثم فرض حصار شامل والمناورة داخلها.
هذا التوجه أثار تحذيرات دولية من “كارثة إنسانية وشيكة”، غير أن الحكومة الإسرائيلية واصلت التصعيد.
وقالت منظمة “أطباء بلا حدود” إن أكثر من مليون فلسطيني يواجهون “رعباً متجدداً”، إذ إن النزوح مستحيل على كبار السن والمرضى والحوامل، بينما من يبقى “حُكم عليه الجيش بالموت”، ومن يفرّ “يطارده القصف حتى في مناطق الإيواء”. المنظمة شددت على أن ما يجري “ليس مجرد كارثة إنسانية، بل إبادة جماعية ممنهجة لشعب أعزل”.
شهادات من الميدان: رحلة نزوح لا تنتهي
بينما تتكشف أبعاد الخطط العسكرية وأرقام النزوح، فإن انعكاساتها على المدنيين تتجلى في قصص إنسانية مريرة.
فهد مقبل يروي مأساته قائلا: “نزحت أولاً من شمال القطاع إلى الجنوب، ثم إلى المنطقة الوسطى، وبعدها إلى رفح، ومن هناك تنقلت بين مناطق عدة. أثناء الهدنة عدت إلى بيت حانون وبقيت هناك قرابة أسبوعين، لكن سرعان ما تجدد القصف فاضطررت للنزوح مجدداً إلى غزة قرب مستشفى الشفاء، حيث عشت نحو ثلاثة أو أربعة أشهر، ثم صدر أمر بالإخلاء، فغادرت من جديد. لم يكن لدي مال لأدفع تكاليف الطريق، فاضطررت لبيع خيمتي بمبلغ 1400 شيقل كي أستطيع الوصول إلى دير البلح”.
ويضيف: “بحثت عن مكان للإيجار فلم أجد، إذ إن أسعار الأراضي تؤجر بالمتر الواحد بما يتراوح بين 5 و7 شواقل، وأنا أب لخمسة أطفال، أي أنني بحاجة إلى ما لا يقل عن 50 أو 60 متراً بمبلغ يتجاوز 400 شيقل شهرياً، ولا أملك أي مصدر دخل. لقد نزحت سبع مرات من بيت حانون إلى المعسكر ثم إلى الشفاء وغيرها من المناطق، إنها حياة غارقة في الألم والمرارة”.
أما شقيقه فارس مقبل فيصف معاناته المتكررة مع النزوح: “بدأت رحلة نزوحي من معسكر جباليا، ثم انتقلت إلى غزة، وعدت لاحقاً إلى المعسكر قبل أن أضطر للنزوح مرة أخرى إلى غزة. تكررت عمليات النزوح ودفعت خلالها تكاليف باهظة. وبعد استقرار مؤقت في غزة، اضطررت إلى مغادرتها مجدداً إلى الجنوب بسبب شدة القصف والمجاعة. قضيت ستة أشهر في مخيم أبو جميزة بدير البلح، ثم عدت إلى بيت حانون بعد الهدنة، لكن مع حلول منتصف مارس/آذار 2025 اضطررت للنزوح مرة أخرى.
وتابع: “كنت دائماً من أوائل من يغادرون بسبب قرب منزلي من الحدود، وفي غزة قرب مستشفى الشفاء باتت الحياة مستحيلة نتيجة القصف العنيف، فدفعت 1500 شيقل للنقل من غزة إلى الزوايدة، ثم إلى دير البلح حيث وجدت نفسي مضطراً للعيش في خيمة على قارعة الطريق. الأرض التي أقيم عليها مهددة بالفيضانات عند نزول المطر، وأسعار الإيجار باهظة تصل إلى 15 و20 شيقلاً للمتر الواحد. نحن عمال بلا عمل، ولا قدرة لنا على دفع هذه المبالغ. لقد تحول النزوح إلى كابوس لا نهاية له”.
وتحمل سناء جابر (أم أكرم) جرحاً غائراً بفقدان ابنها: “نزحت نحو خمس مرات من حي الشيخ رضوان إلى الشجاعية ثم إلى جباليا فالرمال، ومنها عدت مرة أخرى إلى الشيخ رضوان، ثم إلى الشجاعية، وصولاً إلى دير البلح. في النزوح الأول كنا نعبر الشارع باتجاه المدرسة حين سقطت قذيفة فجأة، فقتل ابني البالغ من العمر 16 عاماً أمام باب المدرسة، وظل ينزف ثلاث ساعات قبل أن نتمكن من نقله بصعوبة”.
وأردفت بالقول: “أنا اليوم أعيش في الشارع مع ولديّ وبنتي، ولا أستطيع تحمل تكاليف الإيجارات التي تصل إلى مبالغ خيالية، تصل أحياناً إلى ألف دولار. بالكاد أستطيع شراء كيلو طحين. المكان الذي أسكن فيه الآن كان مكب نفايات قبل أن ننظفه بجهد مضنٍ. إنها حياة قاسية تفوق طاقة البشر”.
دائرة مغلقة من الخوف
تكشف هذه الشهادات أن النزوح في غزة لم يعد مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل تحول إلى دائرة مغلقة من الخوف والفقد والجوع والديون، حيث يواجه المدنيون خيارات مستحيلة بين البقاء تحت القصف أو النزوح نحو المجهول.
في ظل غياب أي أفق لحل سياسي أو إنساني، يبقى النازحون عالقين بين الموت داخل بيوتهم أو الموت على طرق النزوح، بينما يغيب العالم عن تقديم الحد الأدنى من الحماية والكرامة الإنسانية.
نداءات عاجلة
حذر المكتب الإعلامي الحكومي في غزة من أن الجنوب لم يعد قادراً على استيعاب مزيد من النازحين، خاصة في منطقة المواصي التي تضم نحو مليون شخص “دون مقومات حياة”.
وأكد أن المستشفيات استقبلت مئات الضحايا جراء استهداف قوافل النزوح، في “انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني”.
ويطالب المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان والأطر الحقوقية المحلية والدولية بضرورة تحرك المجتمع الدولي والأمم المتحدة ومجلس الأمن “لفرض حماية عاجلة للمدنيين، وفتح ممرات آمنة لإدخال المساعدات، ووقف سياسة التهجير القسري والإبادة الجماعية”.