كتبت – سها ممدوح – وكالات : بعد سنوات من الانهيار المالي غير المسبوق، يحاول لبنان اليوم استعادة أنفاسه عبر رؤية جديدة تحمل عنوان «ترسيخ الثقة»، تستهدف جذب استثمارات تصل إلى 100 مليار دولار خلال 10 سنوات.
الرؤية التي أعلنها وزير الاقتصاد والتجارة عامر البساط ومن المقرر إطلاقها الشهر المقبل تمثل محاولة لإحياء اقتصاد فقد مقوماته الأساسية، وتعتمد على تحفيز والمغتربين وتنشيط قطاعات الإنتاج والبنية التحتية، وسط تفاؤل رسمي بتحسن نسبي في بعض المؤشرات الاقتصادية.
لكن هذا الطموح يصطدم بواقع صعب، إذ لا تزال البلاد ترزح تحت أعباء أزمة مصرفية عميقة، وتوترات أمنية متكررة، وغياب للإصلاحات الهيكلية، وبين آمال استعادة الثقة ومخاطر الانتكاس، يقف أمام اختبار صعب لتحديد ما إذا كانت «ترسيخ الثقة» بداية لتعاف حقيقي أم حلقة جديدة من الوعود المؤجلة.
ويواجه أزمة اقتصادية حادّة، حيث تخلف عن سداد دولية بقيمة نحو 30 مليار دولار منذ 2020، ويصل الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من 30 مليار دولار.
كما فاقمت الهجمات الإسرائيلية على لبنان منذ أكتوبر 2023 الوضع الاقتصادي المتأزم في البلاد، وأسفرت عن دمار طال معظم مناطق البلاد خاصة الجنوب والبقاع وضاحية بيروت، متسببةً في وقوع خسائر وأضرار تُقدّر بنحو 14 مليار دولار، حسب تقديرات البنك الدولي.
ويستهدف لبنان جذب استثمارات تتراوح بين 70 و100 مليار دولار خلال 10 سنوات، وفق رؤية «ترسيخ الثقة»، وتتمحور حول خمسة محاور استراتيجية تهدف إلى إعادة بناء لبنان اقتصادياً واجتماعياً.
وجاء الإعلان عن الرؤية بينما تحضر لبنان إلى تنظيم مؤتمر (Beirut 1) في 18 نوفمبر المقبل، والذي يستهدف عرض مشاريع بنحو 7.5 مليار دولار في قطاع البنية التحتية على القطاع الخاص.
وتستهدف الرؤية الجديدة مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي للبنان إلى 60 مليار دولار بحلول عام 2035، وزيادة الصادرات 4 أضعاف إلى 12 مليار دولار، ورفع معدلات النمو إلى 10% سنوياً عل المدى القريب و5% على الآجل المتوسط.
ويقول المحلل الاقتصادي اللبناني منير يونس في حديث مع «إرم بزنس» إن هذه الرؤية تمثل نقلة نوعية في التعاطي مع الأزمة الاقتصادية في لبنان، وتستفيد من التحسن النسبي في المؤشرات الاقتصادية، لكن نجاحها يعتمد على التنفيذ الفعال.
أساس الانطلاق
ويشهد الاقتصاد اللبناني تحسناً نسبياً بعد سنوات من الانهيار، مع توقعات بنمو طفيف في 2025. وتراجع التضخم، الذي بلغ ذروته بأكثر من 300% في السنوات السابقة، إلى حوالي 120% في 2024، مع توقعات بأن ينخفض إلى أقل من 40% بنهاية 2025، وفقاً لوزير المالية ياسين جابر.
هذه المؤشرات تشير إلى استقرار نسبي، لكن الباحثة الاقتصادية اللبنانية محاسن مرسل تحذر في حديثها مع «إرم بزنس» من المبالغة في التفاؤل، معتبرة أن الحديث عن جذب 100 مليار دولار في ظل التحديات السياسية والأمنية ضرب من الخيال، إذ إن البيئة السياسية غير المستقرة تشكل العائق الأكبر، مشيرة إلى أن غياب الحوكمة الرشيدة واستمرار الأزمة المصرفية يعيقان أي انتعاش مستدام.
يأتي ذلك في الوقت الذي تشهد فيه الصادرات اللبنانية نمواً ملحوظاً، حيث بلغت قيمة الصادرات 2.1 مليار دولار في العام الماضي، مع توقعات بوصولها إلى 2.8 مليار دولار بنهاية 2025.
وتتصدر المنتجات الزراعية والغذائية القائمة بنسبة 28%، تليها المنتجات الصناعية بنسبة 22%، والمجوهرات والمصوغات بنسبة 18%، والمنتجات الكيماوية بنسبة 12%، والأثاث ومواد البناء بنسبة 10%.
ويؤكد المحلل الاقتصادي منير يونس أن هذا التنوع يعزز جاذبية لبنان للمستثمرين، فالصادرات اللبنانية تظهر مرونة رغم الأزمات، لكن الاستثمارات المنتظرة تحتاج إلى استقرار أمني وسياسي لتحقيق الإمكانات الكاملة.
وتظل تحويلات اللبنانيين في الخارج دعامة أساسية للاقتصاد، حيث بلغت 8.2 مليار دولار في 2024، بزيادة 25% عن العام السابق، مع توقعات بوصولها إلى 9 مليارات دولار في 2025. وتساهم هذه التدفقات في استقرار سعر الصرف وتعزز السيولة بالعملات الأجنبية.
ووفق مرسل فإن القطاع الخاص و يشكلان ركيزتين أساسيتين لنجاح الخطة، وهو ما يعكس ثقة اللبنانيين باقتصاد بلدهم، لكنها تحذر من أن الاعتماد الكبير على التحويلات دون استثمارها في قطاعات إنتاجية قد يحد من التعافي طويل الأمد.
وفي سبتمبر الماضي، ارتفع مؤشر مديري المشتريات في لبنان ليسجل 51.5 نقطة مقابل 50 نقطة في شهر أغسطس 2025، مما يشير لتحسين النشاط التجاري لشركات القطاع الخاص اللبناني.
القطاع الخاص
ويعد القطاع الخاص شريكاً رئيسياً في رؤية «ترسيخ الثقة»، حيث يُتوقع أن يسهم بنسبة 40% على الأقل من الاستثمارات. ويقود القطاع مشاريع الطاقة المتجددة، والتحول الرقمي، والخدمات اللوجستية، مع مشاركة فاعلة في الشراكات بين القطاعين العام والخاص.
كما تشهد الاستثمارات العربية والدولية نمواً، حيث بلغت الاستثمارات الخليجية في العقارات والخدمات 1.2 مليار دولار خلال 2023-2024، مع توقعات بوصول الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى 1.5 مليار دولار بنهاية 2025.
ويرى يونس أن أموال المغتربين والمستثمرين الخليجيين يمكن أن تشكل رافعة حقيقية إذا تحقق الاستقرار الأمني وتم بيد الدولة.
عقبات سياسية ومصرفية
من جانبها، تشير الباحثة الاقتصادية محاسن مرسل إلى أن هذه الرؤية تواجه تحديات كبيرة، أبرزها عدم الاستقرار الأمني والسياسي، إذ ترى أن أزمة السلاح واستمرار التوترات الأمنية في الجنوب تجعل البيئة طاردة للاستثمار.
وتضيف أن الأزمة المصرفية، التي بدأت في عام 2019، تسببت في شلل شبه تام، حيث تُقدر الفجوة المالية بنحو 100 مليار دولار، مع انخفاض ودائع المصارف من 174 مليار دولار في 2019 إلى 80 مليار دولار في 2025.
وتؤكد مرسل أنه من دون قطاع مصرفي سليم، لا يمكن للاقتصاد أن ينهض، إذ إن الشركات المالية لا تحل محل المصارف في دورة التمويل، كما أن غياب إصلاحات تشريعية، مثل قانون الفجوة المالية، يعيق استعادة الثقة.
وفي الوقت الذي تتفاوض فيه الحكومة اللبنانية مع صندوق النقد الدولي لتوقيع اتفاق جديد يتضمن إصلاحات في القطاعين المصرفي والعام. يوضح المحلل الاقتصادي منير يونس أنه إذا نجح لبنان في توقيع الاتفاق، سيكون ذلك عاملاً مشجعاً للاستثمار.
ويرى يونس أن جذب 100 مليار دولار يعد «هدفا خياليا» في ظل الظروف الحالية، مشيراً إلى أن الاستثمارات الواقعية تتراوح بين 20 و25 مليار دولار على مدى 5 إلى 8 سنوات، تُخصص لإعادة الإعمار وتحديث البنية التحتية.
ويؤكد أن التحدي الأكبر هو الحفاظ على زخم الإصلاحات واستقطاب الاستثمارات في ظل المنافسة الإقليمية، مشيراً إلى ضرورة الاستفادة من تحويلات المغتربين ودور القطاع الخاص الذي يمكن أن يحقق أهداف الرؤية إذا توفرت بيئة مستقرة.
إقرأ أيضاً :