على ضفاف النيل، خط الفراعنة تاريخًا لا يمحى، حيث جمعت أيديهم بين الفن والعلم والروحانية في أبنية تجاوزت حدود الزمن، الأهرامات والمعابد والتماثيل لم تكن مجرد حجارة، بل كانت رسالة أبدية عن القوة الإبداع، والإرادة الإنسانية، هؤلاء العظماء الذين حكموا مصر منذ آلاف السنين تركوا إرثًا يحاكي الخلود، وإبداعًا لا ينضب، واليوم، مع افتتاح المتحف المصري الكبير، تتجلى هذه العظمة أمام العالم كله، ليشهد على عبقرية حضارة صاغت التاريخ بأيادٍ من ذهب وعقول تسبق عصرها.
الافتتاح المنتظر بعد عقدين من الإنتظار
بعد عقدين من الانتظار وعدد لا يُحصى من التأجيلات، يستعد المتحف المصري الكبير لافتتاحه الرسمي المنتظر مساء اليوم، ليكون مركزاً يحتفي بالحضارة المصرية القديمة، وركيزة أساسية في خطة الحكومة المصرية لإنعاش قطاع السياحة.
المتحف هو أحد المشاريع الضخمة التي يدعمها الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي شرع منذ توليه الرئاسة عام 2014 في استثمارات ضخمة بالبنية التحتية بهدف إعادة تنشيط اقتصاد مصر.
يقع المتحف المصري الكبير على بُعد ميل واحد من أهرامات الجيزة، ويمتد على مساحة 500 ألف متر مربع، وتعود فكرة إنشائه إلى أكثر من 32 عاماً، حيث خصصت الحكومة 117 فداناً للمشروع في عام 1992.
وفي أوائل عام 2002، أطلقت مصر مسابقة معمارية دولية ضخمة لاختيار التصميم الفائز، حيث شارك 2,227 مهندساً من 103 دول وبحلول آب أغسطس، قدّم 1,550 مهندساً من 83 دولة مخططات مفاهيمية، وبحلول تموز يوليو 2003، تم اختيار شركة Heneghan Peng الإيرلندية للفوز بالمشروع وتنفيذه، لكن أعمال البناء لم تبدأ إلا في عام 2005.
كان من المقرر افتتاح المتحف عام 2010، لكن أزمات مالية، اضطرابات سياسية، جائحة كورونا، والحروب الإقليمية أجلت الافتتاح لسنوات.
صرح بمليار دولار.. وكيف تفوق على اللوفر؟
إسم المتحف Grand Egyptian Museum اختصاره GEM بمعنى الجوهرة، بلغت تكلفته مليار دولار، ووُصف بأنه أكبر منشأة أثرية في العالم مخصصة لحضارة واحدة، ويغطي موضوعه 7,000 عام تقريباً، من العصور ما قبل التاريخ إلى نهاية العصور اليونانية والرومانية حوالي عام 400 ميلادي.
يضم المتحف أكثر من 50 ألف قطعة أثرية (وهو يتسع إلى 100 ألف قطعة أثرية)، توثق الحياة في مصر القديمة، بينما يعرض متحف اللوفر في باريس حوالي 35 ألف قطعة أثرية، وبالتالي يتفوق المتحف المصري الكبير على متحف اللوفر، ويأتي هذا التفوق على صعيد المساحة أيضاً حيث أن مساحة المتحف المصري الكبير وهي 500 ألف متر مربع كما ذكرنا، ببينما مساحة اللوفر 210 الف متر مربع، وحتى المتحف البريطاني مساحته الإجمالية حوالي 92 ألف متر مربع .
وزير السياحة والآثار المصري شريف فتحي قال عن المتحف:”إنه هدية من مصر إلى العالم، ونحن فخورون بأن نشاركه أخيراً.”
روائع التصميم
التصميم المدهش من إبداع المهندسة المعمارية الإيرلندية رويسين هينيغان، ويُعد تحية واضحة للهندسة المصرية القديمة إذ تهيمن الأشكال المثلثة والهرمية على تصميمه مع توجيه الأنظار نحو المستقبل عبر استخدام الابتكارات العلمية والمستدامة، فعلى سبيل المثال، يعتمد البناء على الخرسانة المسلحة، وهي مادة تساعد على تنظيم درجات الحرارة الداخلية وتقليل الاعتماد على أنظمة التبريد الصناعي.
وقام المتحف بقياس ومتابعة انبعاثاته الكربونية لعام 2024 من خلال تقارير دولية معتمدة صادرة عن الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات، ما يؤكد توجهه الجاد نحو خفض الغازات الدفيئة.
كما يطبق المتحف أنظمة ذكية لترشيد استهلاك الطاقة والمياه، تتضمن إعادة استخدام مياه الأمطار في ري المساحات الخضراء، إلى جانب الاعتماد على الطاقة المتجددة مثل الخلايا الشمسية، بحسب ما أوردته وزارة البيئة المصرية، وأيضاً حصل المتحف على شهادة “Edge Advance” للمباني الخضراء كأول متحف أخضر في أفريقيا.
الحدائق المحيطة، التي تتناثر فيها أيضاً الأشكال المثلثة، استُلهمت من النباتات الخصبة لوادي النيل.
تفاصيل مدهشة
أمام المدخل الرئيسي المسلة المعلقة الوحيدة في العالم، ارتفاعها 53 قدماً ويبلغ عمرها 3,500 عام، وأورد عنها المتحف أنها:”نُصبت على قاعدة مبتكرة من الفولاذ، لتُصبح المسلة المُعلّقة الوحيدة في العالم، كاشفة عن اسم الملك رمسيس الثاني داخل خرطوش ملكي”.
ومن بين القطع التي يضمها المتحف تمثال ضخم يبلغ وزنه 83 طناً وعمره 3200 عام للفرعون رمسيس الثاني الذي نُقل في عام 2006 من ميدان مزدحم وسط القاهرة إلى موقع قريب من الأهرامات، حيث بُني المتحف حوله واستغرقت عملية نقله 10 ساعات تحت حراسة مشددة.
وأورد المتحف تميز ما استطاع تحقيقه من خلال موقع التمثال بهذه الكلمات:”من عظمة المصريين القدماء أنهم إستطاعوا تشييد تمثال الملك رمسيس الثاني في معبد أبو سمبل بحيث تتعامد الشمس على وجهه في نفس التاريخ والتوقيت من كل عام احتفالًا بيوم تتويجه.وقد نجح فريق المهندسين المعماريين والأثريين في المتحف المصري الكبير في محاكاة هذه الظاهرة وإقامة تمثال الملك رمسيس الثاني في البهو العظيم بالمتحف في زاوية من خلالها تشرق الشمس وتتعامد على وجه الملك يوم 21 فبراير من كل عام.”
يؤدي سلم ضخم مكون من ستة طوابق، تصطف على جانبيه تماثيل قديمة، إلى القاعات الرئيسية مع إطلالة على الأهرامات القريبة، ويربط جسر بين المتحف والأهرامات، مما يتيح للسياح التنقل بينهما سيرًا على الأقدام أو باستخدام مركبات كهربائية صديقة للبيئة.
وأوضح المتحف:”من عبقرية تصميم المتحف المصري الكبير أنه يتماشى هندسيًا مع أهرامات الجيزة حيث يتحاذى أول ضلع مع الهرم الأكبر (خوفو)، ومنتصف المبنى مع الهرم الأوسط (خفرع)، والضلع الآخر مع الهرم الأصغر (منقرع). وهي من أحد عجائب التصميم المعماري للمتحف”
يحتوي المتحف على 24 ألف متر مربع من قاعات العرض الدائم، إضافة إلى متحف للأطفال، قاعات مؤتمرات، ومنطقة تجارية، تتميز القاعات بتقنيات متقدمة وتقديم عروض متعددة الوسائط بما في ذلك العروض المختلطة الواقع لشرح الحضارة المصرية القديمة للأجيال الجديدة، كما يضم قاعات العرض المؤقت وقاعات للعروض المتغيرة فصول الحرف والفنون وفصول للحرف اليدوية وقاعات العرض لذوي القدرات الخاصة ومخازن الاثار والمكتبة الرئيسية ومكتبة الكتب النادرة ومكتبة المرئيات.
وقال أحمد غنيم، المدير التنفيذي للمتحف، إن القاعات مجهزة بتقنيات متطورة وعروض متعددة الوسائط، بما في ذلك عروض الواقع المختلط التي تمزج بين التراث العريق والإبداع العصري، وأضاف:نستخدم اللغة التي يفهمها جيل (زد)، فهم لا يقرؤون اللوحات التقليدية مثلنا نحن الكبار، ويفضلون التكنولوجيا.”
وتشمل القاعات الـ12 الرئيسية، معروضات تمتد من العصور ما قبل التاريخ إلى العصر الروماني، منظمة حسب الحقبة والموضوع.
يضم المتحف أيضاً أحد أكبر مراكز الترميم والبحث العلمي في العالم، ويربط نفق تحت الأرض المبنى الرئيسي بـ 19 مختبراً متخصصاً مكرساً لحماية التراث المصري القديم من البرديات الهشة إلى التماثيل والنقوش البشرية.
نُقلت العديد من القطع من المتحف المصري القديم في ميدان التحرير، بينما تم استخراج أخرى حديثاً من مقابر أثرية مثل منطقة سقارة، التي تضم مجموعة من الأهرامات والمقابر على بُعد نحو 14 ميلاً جنوب المتحف.
هكذا وصف الدكتور زاهي حواس المتحف
عالم الآثار المصري العالمي الدكتور زاهي حواس الذي يُشهد له على مجهوده الكبير على مدار سنوات طويلة في مجال الآثار المصرية سواء على صعيد الإكتشافات أو الحفاظ عليها أو إيصال معلومات عنها إلى العالم أورد:”المتحف المصري الكبير وُلد من رؤية الوزير فاروق حسني خلال فترة عملي كأمين عام للمجلس الأعلى للآثار، معًا انطلقنا لتحويل الحلم إلى حقيقة: متحف يقف بجوار الأهرامات ليروي القصة الخالدة لمصر، أتذكر بوضوح اللحظة التي اخترنا فيها الموقع، واختيارنا للمهندس المعماري من خلال مسابقة دولية، وكذلك النقل التاريخي للتمثال الضخم لرمسيس الثاني إلى مقره الجديد تلك اللحظة التي ستبقى خالدة في قلوب جميع المصريين، المتحف المصري الكبير ليس مجرد مبنى، بل هو رمز لفخر مصر وجسر يربط بين تراثنا العريق وطموحاتنا الحديثة. بعد سنوات من العمل والتفاني، سيفتح هذا الحلم أبوابه للعالم.”
ونشير إلى معلومة مهمة يوردها الدكتور زاهي حواس وهو أن الآثار في مصر تم الكشف عن 30 بالمئة منها فقط بينما 70 بالمئة منها ما زال في جوف الأرض.

قارب خوفو الشمسي
من المعالم الرئيسية الأخرى في المتحف قارب خوفو الشمسي الذي يبلغ عمره 4,600 عام، الفرعون المسؤول عن بناء الهرم الأكبر بالجيزة. يبلغ طول القارب الخشبي 43 مترًا (140 قدمًا)، وتم اكتشافه في خمسينيات القرن الماضي، ودفن بجانب الهرم الأكبر ليستخدمه خوفو في الحياة الآخرة. في عام 2021، تم نقله من موقع عرضه بجوار الأهرامات إلى المتحف المصري الكبير بواسطة مركبة تعمل بالتحكم عن بعد مستوردة من بلجيكا.
توت عنخ آمون: كل كنوزه في مكان واحد لأول مرة منذ 1922
يضم المتحف أكثر من 5 آلاف قطعة أثرية من مقبرة الملك، بما في ذلك قناع الموت الشهير والزينة الملكية البراقة، وستُفتتح القاعتان، اللتان تعرضان مئات القطع التي لم تُعرض من قبل، وذلك لأول مرة منذ اكتشاف مقبرته على يد هوارد كارتر عام 1922 في مدينة الأقصر.
الدكتور حسين كمال مدير عام مركز الترميم في المتحف قال لـ NBC News إن هذه هي المرة الأولى منذ اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون قبل أكثر من قرن التي تُجمع فيها جميع مقتنياته في مكان واحد. إنه أمر رائع”، مضيفاً أنه يشعر بحماس خاص تجاه المعرض الذي يعرض درع الملك توت المصنوع من المنسوجات والجلد، واصفاً إياه بأنه “قطعة فريدة في تاريخ الحضارة المصرية القديمة”.
وأوضح كمال أن القطع، التي كانت محفوظة سابقاً في المخازن، خضعت لعملية ترميم دقيقة منذ عام 2017 على أيدي 150 خبيراً في المركز. وأضاف:”حاولنا إعادة تشكيلها استناداً إلى الأصل”، مشيراً إلى أن العمل كان صعباً لأنهم لم يجدوا نموذجاً يقارنون به، واضطروا إلى الاعتماد على “التحليل والتحقيق العلمي لمعرفة البنية الأصلية للدرع”.
فكما في متحف اللوفر تتميز “الموناليزا”، وفي المتحف البريطاني يتميز “حجر رشيد”، بإن في المتحف المصري الكبير يتميز توت عنخ آمون.
خطوة استراتيجية لتعزيز الاقتصاد والسياحة
وبالإضافة إلى كونه صرحاً للتراث القديم، يمثل المتحف استثماراً استراتيجياً في الثقافة والسياحة لمصر، ثاني أكبر اقتصاد في أفريقيا، بعد سنوات من الاضطرابات.
تأمل الحكومة أن يجذب المتحف المزيد من السياح ليقيموا فترة أطول ويحققوا العملة الأجنبية التي تحتاجها مصر لتعزيز اقتصادها.
فقد عانى قطاع السياحة سابقاً، وفي السنوات الأخيرة بدأ القطاع يتعافى من جائحة كورونا، وتأثيرات الحرب الروسية على أوكرانيا، إذ يشكل السياح من روسيا وأوكرانيا مصدرًا رئيسيًا للزائرين لمصر.

ووفقًا للأرقام الرسمية، زار مصر رقم قياسي بلغ 15.7 مليون شخص في عام 2024، وتهدف الحكومة لجذب 30 مليون زائر بحلول 2032.
قامت السلطات بتطوير المنطقة المحيطة بالمتحف والأهرامات، حيث تم تعبيد الطرق وبناء محطة مترو خارج أبواب المتحف لتسهيل الوصول إلى المواقع، كما تم افتتاح مطار سفنكس الدولي غرب القاهرة على بعد 40 دقيقة من المتحف.
وسيواجه الزوار القادمون من مطار سفنكس الدولي تمثالاً حديدياً ضخماً يبلغ ارتفاعه 27 متراً (89 قدماً) بعنوان “الحارس” من إبداع الدكتور ضياء عوض، أستاذ النحت بكلية الفنون الجميلة بجامعة المنيا، ليكون بوابة ترحيب رمزية للمتحف المصري الكبير.

