الذكاء الاصطناعي
في غضون سنوات قليلة، تحوّل الذكاء الاصطناعي من مجرد تقنية صاعدة إلى محور رئيسي يهزّ الأسواق ويعيد صياغة توقعات المستثمرين؛ فمع كل قفزة في قدرات النماذج اللغوية، وكل إعلان عن شراكة أو شريحة جديدة، تتسارع رؤوس الأموال نحو قطاع يُنظر إليه على أنه المستقبل الحتمي للاقتصاد العالمي. لكن هذا التدفق الهائل للأموال ترافقه موجة تساؤلات لا تقل قوة: هل نعيش طفرة حقيقية أم مجرد ضجيج سرعان ما يتلاشى كفقاعة؟
رغم الزخم الإعلامي والسباق المحموم بين الشركات، تتصاعد في الأوساط الاقتصادية إشارات تشبه، في نظر البعض، مقدمات الانفجارات المالية التاريخية. فالنماذج الضخمة باتت أكثر كلفة وتعقيداً، والشركات الناشئة تتسابق لإضافة كلمة “AI” إلى وصفها، فيما تتكدّس الاستثمارات في مشاريع لم تختبر بعد قدرتها على توليد عوائد مستدامة. هذا المشهد يعيد إلى الأذهان سؤالاً قديماً متجدّداً: متى يتحول الابتكار إلى فقاعة؟
وبين التفاؤل الواسع والشكوك المتنامية، يقف خبراء الاقتصاد والتقنية أمام مرحلة يعتبرونها مفصلية في مسار الذكاء الاصطناعي. فالتاريخ يخبرنا أن الثورات الكبرى تبدأ عادة بضجيج صاخب قبل أن تدخل اختبار القيمة الحقيقية. واليوم، يبدو أن الذكاء الاصطناعي يقترب من تلك اللحظة الحاسمة التي تتراجع فيها المبالغة.
“مخاوف الفقاعة”
في هذا السياق، يشير تقرير لـ “بيزنس إنسايدر” إلى تزايد المخاوف في الأسواق من تكرار ملامح أزمة عام 1999 (فقاعة الدوت كوم) في مشهد الاستثمار التكنولوجي الراهن. وبينما يدور جدل واسع حول ما إذا كان الذكاء الاصطناعي يعيش فقاعة مالية، تبرز إشارات تاريخية محددة ينبغي للمستثمرين الانتباه إليها.
ينقل التقرير عن محللي غولدمان ساكس قولهم إنهم يعتقدون بأن الهوس الحالي بالذكاء الاصطناعي قد يعيد إلى الأذهان انفجار فقاعة الدوت كوم في مطلع الألفية.
ويوضح كل من دومينيك ويلسون، المستشار الأول في قسم أبحاث الأسواق العالمية، وفيكي تشانغ، استراتيجي الأبحاث الماكروية، في مذكرة للعملاء الأحد، أن الأسهم “لا تزال بعيدة” عن لحظة 1999، لكن مؤشرات تشابه حقبة ما قبل الانفجار أصبحت تتزايد.
وجاء في المذكرة: “نرى مخاطر متنامية تشير إلى أن الاختلالات التي تراكمت في التسعينات قد تبدأ بالظهور مع اتساع طفرة الاستثمار في الذكاء الاصطناعي. وقد شهدنا في الآونة الأخيرة صدى لنقطة التحوّل التي سبقت انفجار فقاعة التسعينات،” مشيرين إلى أن مسار تداول أسهم الذكاء الاصطناعي اليوم يشبه وضع التكنولوجيا في عام 1997، أي قبل سنوات من الانهيار.
ذروة إعلامية واستثمارية
من جانبه، يقول خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي بجامعة سان هوزه الحكومية في كاليفورنيا، الدكتور أحمد بانافع، لموقع اقتصاد سكاي نيوز عربية:
- إن جنون الذكاء الاصطناعي بلغ بالفعل ذروته الإعلامية والاستثمارية.
- العالم يعيش اليوم مرحلة تشبه إلى حد كبير “فقاعة الإنترنت” في مطلع الألفية الجديدة، حيث تتدفق الاستثمارات إلى كل مشروع يحمل شعار الذكاء الاصطناعي حتى لو لم يمتلك نموذجاً تجارياً واضحاً.
- الكثير من الشركات تسعى وراء موجة الذكاء الاصطناعي بدافع الخوف من فوات الفرصة (FOMO) أكثر من اعتمادها على نتائج حقيقية أو قيمة اقتصادية ملموسة.
- العديد من تلك المشاريع لم تحقق بعد عوائد تبرّر الإنفاق الضخم على البنية التحتية والمعالجات والبيانات.
ويوضح أن الطموحات في القطاع كبيرة، لكن “النتائج حتى الآن دون المستوى المتوقع”، فبعد الضجة التي صاحبت إطلاق النماذج اللغوية العملاقة مثل ChatGPT وClaude وGemini، تباطأ التحسن النوعي في أداء النماذج، ولم تعد أكثر ذكاءً بقدر ما أصبحت أكثر ضخامة، مع تزايد التحديات المتعلقة بالدقة والهلوسة والأمان.
ويتابع بانافع قائلاً إن “بعض الشركات بدأت تشعر بالعبء المالي لتشغيل هذه النماذج بسبب استهلاكها الكبير للطاقة والحوسبة، وهو ما يدفع السوق الآن للانتقال من التوسع الكمي إلى التفكير النوعي؛ أي كيف نحسّن الكفاءة بدلًا من مجرد زيادة الحجم”.
كيف تحمي وظيفتك من تهديد الذكاء الاصطناعي؟
لكنه يشير إلى أنه “رغم تباطؤ الحماس، إلا أن موجة الذكاء الاصطناعي لم تنتهِ بعد”، موضحاً أن التطورات في شرائح الذكاء الاصطناعي التناظرية والكمومية ما زالت في بداياتها، وأن التطبيقات الصناعية والتعليمية والطبية لم تبلغ بعد كامل إمكاناتها.
ويؤكد بانافع أن “الذكاء الاصطناعي وصل إلى نقطة التحول التي تسبق النضج” مشيراً إلى أن الضجة الإعلامية قد تهدأ، لكن الثورة التقنية ستستمر بوتيرة أكثر واقعية، لتبدأ مرحلة “نهاية الحماس وبداية الفائدة”، حين تتراجع الوعود المبالغ فيها وتظهر التطبيقات الحقيقية التي تغيّر قواعد اللعبة.
التنبؤ بالفقاعات
يشير تقرير لـ “بروكينغز”، إلى أن “من المعروف أن التنبؤ بالفقاعات المالية أمرٌ صعب؛ فمنذ عامي 1636 و1673، عندما بلغت أسعار زهور التوليب الهولندية ذروتها قبل أن تنهار انهياراً كبيراً إلى ارتفاع أسعار الأسهم في أواخر عشرينيات القرن الماضي الذي أدى في النهاية إلى الكساد الكبير، أو انهيار شركات الإنترنت عام 2000، غالباً ما كانت الفقاعات تُفاجئ الناس. وفي الفترة الأخيرة، في عامي 2008 و2009 انهارت أسعار المساكن والأصول المالية المرتفعة بشكل غير متوقع، مما أدى إلى خسائر بمليارات الدولارات في التقييمات.
واليوم، دفعت أسعار الأسهم المرتفعة، مدفوعةً بعددٍ محدودٍ نسبياً من شركات التكنولوجيا، مدفوعةً بطفرة الذكاء الاصطناعي، البعض إلى التساؤل عمّا إذا كنا على شفا فقاعة في هذا المجال.
الذكاء الاصطناعي يلتهم الوظائف في أميركا.. كيف نستعد لذلك؟
وكما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز مؤخراً ، فإن “80 بالمئة من مكاسب الأسهم الأميركية هذا العام جاءت من شركات الذكاء الاصطناعي”.
تثير هذه المكاسب السوقية الهائلة تساؤلاتٍ حول ما إذا كانت المليارات التي أُنفقت على مراكز البيانات لتغذية طفرة الذكاء الاصطناعي الحالية ستُحقق عوائد كافية لتبرير هذه الاستثمارات.
من جهة، يستحيل الإجابة على هذا السؤال، فكما يُظهر التاريخ، نادراً ما يستطيع الخبراء التنبؤ بالفقاعات قبل انفجارها. لكن ثمة ستة مؤشرات قد تساعدفي رصد مخاطر الذكاء الاصطناعي الحالية واحتمالات تراجع التفاؤل، وهي: استثمارات الذكاء الاصطناعي، والجداول الزمنية لبناء مراكز البيانات، ومستويات تبني الذكاء الاصطناعي، ومستويات أسعاره، ومنافسة الشركات، وثقة الجمهور بالتكنولوجيا.
ستساعد مراقبة هذه المؤشرات الناس على توقع ما إذا كانت فقاعة الذكاء الاصطناعي ستنفجر أم ستنمو.
جنون الـ AI
أستاذ علم الحاسوب وخبير الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات في السيليكون فالي كاليفورنيا، الدكتور حسين العمري، يقول لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- قد يبدو المشهد الحالي وكأنه ذروة جنون الذكاء الاصطناعي الذي اجتاح الأسواق، لكنّ ما يحدث في الواقع أعمق من مجرد موجة حماس مؤقتة.
- نحن أمام لحظةٍ حاسمة في تاريخ التقنية، يتقاطع فيها الابتكار العلمي مع الطموح الاقتصادي ومع الخيال الجمعي الذي ضاعف التوقعات إلى حدٍ غير مسبوق.
- على مدى العامين الماضيين، شهدنا انفجاراً في تقييمات شركات الذكاء الاصطناعي؛ تضاعفت القيم السوقية لبعضها أكثر من ثلاث مرات، وأصبحت الكثير من الشركات – مهما كان مجالها- تسارع إلى إضافة كلمة AI في وصفها لتجذب المستثمرين.
- هذه الاندفاعة الهائلة بدأت تصطدم بأسئلة واقعية: أين الأرباح؟ أين التطبيقات التي تُغيّر فعلاً طريقة عمل المؤسسات؟ وهل يمكن تحويل النماذج اللغوية العملاقة إلى أعمالٍ مستدامة؟
ويستطرد: الذكاء الاصطناعي لا يمرّ بأزمةٍ تقنية، بل بامتحانٍ اقتصادي، فالعقول المبدعة أثبتت قدرتها على تطوير خوارزميات مذهلة، بينما الأسواق باتت مطالَبة بالتمييز بين الثورة العلمية والفقاعة المالية. والأرجح أننا نعيش مرحلة ذروة التوقعات، وهي المرحلة التي تسبق عادةً “وادي الواقعية”، حيث تتراجع الضوضاء ويبقى الجوهر.
مثلما حدث في فقاعة الإنترنت مطلع الألفية، لم تمت الفكرة، بل نضجت؛ سقطت الشركات الهشّة، وبقيت منها أمازون وجوجل لتقود الاقتصاد الرقمي لاحقًا. التاريخ يعيد نفسه اليوم بصورةٍ أكثر سرعة واتساعاً.
ويتابع:
- من منظور أوسع، جنون الذكاء الاصطناعي هو الوجه الآخر لشغف الإنسان بالتقنية، وهو دليل على أننا أمام ثورة حقيقية لا يمكن إيقافها، لكنها تحتاج إلى تصحيح المسار.
- ستتراجع التقييمات بلا شك، وسينكمش رأس المال المضارب، لكن الأثر العميق سيبقى في الاقتصاد والمعرفة والتعليم والصناعة. فبعد أن تخفت العناوين الصاخبة، سيبدأ الذكاء الاصطناعي في أداء دوره الحقيقي: إعادة تعريف الكفاءة والإنتاجية والإبداع.
ويضيف: لم يبلغ الجنون ذروته بمعنى النهاية، بل بلغ مرحلة النضوج القسري. إنه الوقت الذي تتحول فيه الضوضاء إلى واقعية، والتوقعات إلى نتائج، والوعود إلى منتجات. ومن سيبقى في المشهد ليس من يتحدث عن الذكاء الاصطناعي، بل من يعرف كيف يجعله يولّد قيمة حقيقية قابلة للقياس والتأثير.
الذكاء الاصطناعي يرسم مستقبل مشرق للعالم

