قبل أكثر من قرنٍ من الزمان، أبحرت السفينة “آر إم إس تايتانيك” في رحلتها الأولى من ميناء ساوثهامبتون، حاملةً على متنها أكثر من 2200 راكب، بين حلم الثراء، والهجرة، والمغامرة.
كانت تايتانيك وقتها أعجوبة هندسية تُفاخر بها أوروبا العالم، قصرًا عائمًا بطول 269 مترًا وارتفاع 53 مترًا، صُممت لتكون “السفينة التي لا تغرق”، لكن في ليلةٍ باردة من أبريل عام 1912، اصطدمت بجبلٍ جليدي لتتحول من رمزٍ للحداثة إلى رمز للغرور البشري، غرقت السفينة في ظلمات المحيط الأطلسي، وابتلعت معها أكثر من 1500 إنسان، لتبدأ أسطورةٌ لم تغب عن الذاكرة حتى اليوم.
وبينما كانت تايتانيك في الحقيقة مأساة بشرية قاسية، فإن المخرج جيمس كاميرون أعادها للحياة بعد 85 عامًا، في فيلمه الشهير Titanic (1997)، ليحوّل الغرق إلى ملحمة حبٍّ رومانسية خالدة والذي لا زال يعرض حتى اليوم.
في عيون السينما، لم تعد الكارثة مجرد حادث مأساوي، بل قصة حب بين روز الأرستقراطية وجاك الفقير، جمعت بين طبقتين يفصل بينهما المجتمع والمصير.
ومع أن القصة أسرت قلوب الملايين، إلا أن جاك وروز لم يبحرا يومًا في سجلات التاريخ، فهما شخصيتان من خيال كاميرون لا وجود لهما على السفينة الحقيقية اي قصة التايتانيك من مخيلة المخرج وليست قصة واقعية.
في الواقع، لم تكن هناك روز تبحث عن حريتها من خطيب متغطرس، ولا جاك يرسم بموهبة الفنان الفقير على سطح الدرجة الثالثة، حتى الطبقة الثالثة التي صوّرها الفيلم بمشاهد الرقص والمرح، لم تكن بتلك الصورة الحالمة، فقد كانت السفينة مقسمة إلى درجتين فقط، ولم يُميَّز بين الركاب في لحظات الغرق كما أظهر الفيلم، كذلك فإن خطيب روز “كال” ووالدتها “روث” شخصيتان من وحي الخيال، ابتكرهما كاميرون ليجعل الصراع الطبقي خلفيةً درامية لقصة الحب والمأساة.
ومن بين أشهر الرموز السينمائية في الفيلم، قلادة “قلب المحيط” التي كانت محور الحكاية، لكن هذه القلادة لم تكن موجودة في الواقع، ورغم أن هناك ماسة حقيقية أهداها رجل الأعمال المتزوج هنري مورلي لعشيقته كيت فيليبس على متن السفينة، فإنها لم تكن مرتبطة بملك فرنسي ولا تحمل تلك القصة الأسطورية التي سردها الفيلم، فالحقيقة أكثر بساطة، لكنها أكثر إنسانية: حبٌّ حقيقي ضاع في أعماق البحر دون أضواء الكاميرات.
أما في ما يخص المشاهد التاريخية، فقد نجح كاميرون في نقل بعض التفاصيل بدقة مذهلة، فبالفعل، عزفت الفرقة الموسيقية على ظهر السفينة حتى اللحظة الأخيرة، بقيادة العازف والاس هارتلي، محاولين تهدئة الرعب بموسيقاهم قبل أن يبتلعهم البحر، وكانت أغنيتهم الأخيرة “إلهي قرّبني إليك”، كما ذكر الناجون.
كذلك، أظهر الفيلم انقسام السفينة إلى نصفين، وهو ما تأكد لاحقًا عام 1985 حين عُثر على الحطام في قاع الأطلسي، متشظيًا كما صوّره كاميرون تمامًا.
ومن المفارقات العجيبة أن بعض ما عُدّ خيالاً في الفيلم كان له جذور في الواقع، فمثلاً، وجود شخص يُدعى “ج. داوسون” على السفينة كان حقيقيًا، لكنه لم يكن الرسام جاك بل عامل فحم اسمه جوزيف داوسون، لم يعرفه أحد حتى بعد عرض الفيلم، كما أن عبارة “السفينة التي لا تغرق”، التي ترددت في الفيلم وكأنها نبوءة مغرورة، لم تكن من أقوال البحارة أو المهندسين، بل وُلدت في الصحافة قبل الإبحار، في تقارير كانت تمتدح تصميمها المقاوم للماء.
لم تكن تايتانيك مجرد حادث غرق، بل مرآة عكست أوهام الإنسان بقهر الطبيعة، ومأساة تجسدت فيها الطبقية والموت جنبًا إلى جنب، لكن كاميرون، ببراعة فنية، أعاد كتابتها كحلمٍ سينمائي يفيض بالعاطفة، ليمنح المأساة وجهًا رومانسيًا خالدًا.
وهكذا وُلدت تايتانيك مرتين: الأولى في بلفاست، حين صنعتها الأيدي البشرية، والثانية في هوليوود، حين صنعها الخيال، وإذا كانت السفينة الحقيقية قد تلاشت في ظلمات البحر، فإن سفينة كاميرون أبحرت في ذاكرة السينما إلى الأبد.
غرقت تايتانيك مرة واحدة، لكن قصتها، بين الحقيقة والخيال، ستبقى تطفو على سطح الوجدان ما دام هناك من يؤمن أن بعض الغرق لا يُميت، بل يُخلّد.
