تكنولوجيا – الذكاء الاصطناعي – أميركا
تشهد الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة تحولاً اقتصادياً عميقاً تقوده طفرة الذكاء الاصطناعي، التي باتت حجر الأساس في موجة نمو غير مسبوقة تعيد تشكيل خريطة القطاعات وأسواق المال وسلوك الاستثمار.
ورغم التباطؤ الذي يضرب قطاعات تقليدية كالتصنيع والعقار، تواصل الشركات التكنولوجية -خاصة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي والرقائق- ضخ استثمارات هائلة باتت تقود النمو، وتؤثر بشكل مباشر في الإنتاجية، وتغذي القفزات المتتالية في مؤشرات الأسهم الأميركية.
لكن هذا الاعتماد المفرط على قطاع واحد يثير تساؤلات حيوية حول قدرة الاقتصاد الأميركي على الصمود إذا واجهت هذه الطفرة تعثراً مفاجئاً أو تباطؤاً مرحلياً، خصوصاً أن جزءاً كبيراً من النشاط الاقتصادي الحالي، من الإنفاق الاستهلاكي إلى حركة رؤوس الأموال، أصبح مرتبطاً بشكل وثيق بمسار شركات الذكاء الاصطناعي العملاقة وأرباحها.
كما زادت تقييمات الأسهم إلى مستويات قياسية، ما ضاعف المخاوف من فقاعة محتملة قد يمتد أثرها إلى الأسواق والوظائف والإنتاجية.
وتزداد حساسية هذا السؤال في ظل تزايد التحذيرات من هشاشة النمو القائم على قطاع واحد، إضافة إلى المخاطر المحيطة بالطاقة وسلاسل التوريد وتنظيم التقنيات المتقدمة.
وبينما تتسابق الشركات لبناء مراكز بيانات وتطوير نماذج أكثر تقدماً، يرى خبراء الاقتصاد أن أي تعثر في هذا المسار بخلاف تداعياته المالية المحتملة، فستكون له تداعيات استراتيجية أيضاً، لكون الذكاء الاصطناعي تحوّل إلى ركيزة للأمن القومي الأميركي وأداة مركزية في الحفاظ على التفوق التكنولوجي أمام المنافسة الصينية المتصاعدة.
طفرة الذكاء الاصطناعي
يشير تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن الاقتصاد الأميركي ينقسم إلى قسمين: (كل ما يرتبط بالذكاء الاصطناعي مزدهر، بينما لا يزدهر أي شيء آخر تقريباً).
- يجني مطورو الذكاء الاصطناعي وصانعو الرقائق مئات المليارات من الدولارات من الاستثمارات.
- تنتشر مراكز البيانات في جميع أنحاء البلاد.
- تتسابق شركات المرافق لبناء محطات طاقة جديدة وإخراج المحطات القديمة من الخدمة لتلبية الطلب المتزايد على الكهرباء.
- يحصل العمال ذوو المهارات المناسبة – من المطورين الذين يبنون نماذج الذكاء الاصطناعي إلى الكهربائيين الذين يوصلون الأسلاك الكهربائية إلى المرافق التي تُشغّلها – على رواتب ممتازة.
- في بقية قطاعات الاقتصاد، يختلف الوضع. فقد ارتفعت معدلات البطالة، وتباطأت وتيرة التوظيف ، وبدأت قطاعات، بما في ذلك قطاع التصنيع وبناء المنازل، في تقليص الوظائف. وتراجعت ثقة المستهلكين في ظل ارتفاع الأسعار. وتأثر القطاع العام سلبًا بتخفيضات الميزانية وتسريح الموظفين على المستوى الفيدرالي. وشكلت الرسوم الجمركية، وما يحيط بها من غموض، عبئًا على التجارة الدولية، وأدت إلى تباطؤ استثمارات العديد من الشركات.
لكن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي كمصدر للنمو يطرح سؤالا على الاقتصاد: ماذا سيحدث إذا توقف الزخم؟
الذكاء الاصطناعي.. فرصة العالم لطاقة أكثر موثوقية
بحسب تقرير الصحيفة، يتجلى هذا التهديد جلياً في سوق الأسهم، التي سجلت أرقاماً قياسية متتالية في الأشهر الأخيرة، ويعود ذلك بشكل رئيسي إلى قوة حفنة من الشركات المتخصصة في الذكاء الاصطناعي.
تُشكل سبع شركات، منها أمازون ومايكروسوفت وألفابت، الشركة الأم لغوغل، الآن ما يزيد عن ثلث قيمة مؤشر ستاندرد آند بورز 500. شركة واحدة فقط من بين ما يُسمى بالشركات السبع الرائعة، وهي إنفيديا، المُصنّعة للرقائق التي تُشغّل العديد من نماذج اللغات الكبيرة الأكثر تطوراً، تجاوزت مؤخراً، ولو لفترة وجيزة، 5 تريليونات دولار من حيث القيمة السوقية.
- تستند هذه التقييمات المبالغ فيها إلى افتراضاتٍ بأن النمو السريع الأخير سيستمر لسنوات، وهو ما حذّر بعض المستثمرين من أنه قد يكون غير واقعي.
- حتى الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI، سام ألتمان صرّح في أغسطس بأنه يعتقد بأن المستثمرين متحمسون جدًا للذكاء الاصطناعي.
- لم يُبدد تقرير الأرباح الفصلية القوي الصادر عن شركة Nvidia يوم الأربعاء هذه الشكوك تماماً.
ويضيف التقرير: إن انفجار هذه الفقاعة – أينما حدث – قد يكون له تداعياتٌ واقعية. فقد ازداد الإنفاق الاستهلاكي في الأرباع الأخيرة بفضل الأسر ذات الدخل المرتفع ، التي واصلت التسوق حتى مع تراجع العديد من الأسر ذات الدخل المنخفض. ولكن إذا تعثرت سوق الأسهم، فقد تُقلّص الأسر الغنية إنفاقها أيضاً.
ونقل عن الخبير الاقتصادي الأميركي في بنك أوف أميركا، أديتيا بهاف، قوله: “إذا كانت الأسر التي استفادت بشكل كبير من أداء الشركات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي في سوق الأسهم هي المسيطرة على نمو الإنفاق، فإن بيع الأسهم قد يكون مؤلمًا للغاية للاقتصاد”. وأضاف: “هذا يُنشئ بالفعل درجة من الهشاشة”.
لكن في الوقت الحالي، لا تظهر الطفرة – وتأثيرها على الاقتصاد الأوسع – أي بوادر انحسار، فقد أنفقت الشركات الأميركية أكثر من 60 مليار دولار على معدات الحاسوب في الربع الثاني، بزيادة قدرها 45 بالمئة عن العام السابق. كما أنفقت 10 مليارات دولار أخرى على بناء مراكز البيانات، بزيادة قدرها 35 بالمئة. ويُرجّح خبراء الاقتصاد وخبراء الصناعة أن الذكاء الاصطناعي يُمثل معظم هذا النمو.
المحرك الرئيسي للأسواق
من جانبه، يوضح رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets، جو يرق، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن:
- الذكاء الاصطناعي يشكّل اليوم المحرّك الأساسي للأسواق الأميركية.
- موجة النمو المتواصلة التي شهدتها أسواق المال منذ نهاية العام 2022 وحتى الآن تعود بشكل رئيسي إلى الاستثمارات الضخمة في تقنيات الذكاء الاصطناعي.
- تقديرات باستثمارات “تريليونية” في القطاع بحلول 2030، ما يعكس الرهان الكبير على هذه التكنولوجيا وقدرتها على خلق المزيد من النمو في الأسواق المالية.
ويتابع يرق محذراً أنه “في حال تعثّر هذا القطاع سنشهد سيناريو مشابهاً لما حصل خلال فقاعة الدوت كوم في بداية الألفية، الأمر الذي قد يؤدي إلى موجة إفلاسات كبيرة خاصة لدى الشركات ذات التقييمات المبالغ بها أو تلك التي تعتمد على مستويات مديونية مرتفعة”.
ويشير إلى أن التقديرات الحالية تفيد بأن نحو النسبة الأكبر من الشركات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي قد لا تملك فرصاً كبيرة للاستمرار، بينما ستكون الشركات الكبرى فقط هي القادرة على تخطي التحديات المقبلة بفضل رسملتها القوية وقدرتها على تحقيق عوائد مستدامة على المدى الطويل.
كما يؤكد أن الأسعار المرتفعة لأسهم الذكاء الاصطناعي حالياً مبنية على توقعات بأرباح مستقبلية كبيرة، ويقول إنه بدءاً من العام المقبل “يتعين أن تكون الإيرادات والأرباح أعلى بشكل ملحوظ لتستوعب تلك الشركات حجم الإنفاق والاستثمارات الهائلة التي تقوم بها اليوم”، في تقديره.
ويختتم يرق حديثه بالتشديد على أن أي تعثر طارئ في قطاع الذكاء الاصطناعي قد يعيد الأسواق إلى موجة هبوط حاد، ولكن الشركات التي ستنجح في البقاء والاستثمار بذكاء ستكون أكبر المستفيدين من الأرباح الضخمة المتوقعة في المستقبل، مؤكداً أن المستقبل سيكون بلا شك للذكاء الاصطناعي.
فقاعة
ووفق تقرير لشبكة “سي إن بي سي” فإنه بينما تُشكّل نفقات الذكاء الاصطناعي فقاعة داخل السوق، يؤكد مؤسس بريدجواتر، راي داليو، أن المستثمرين ليسوا مضطرين للتخلي عن مراكزهم.
وقال داليو يوم الخميس الماضي، في نصيحته للمستثمرين: “لا تبيع لمجرد وجود فقاعة”، مضيفاً: “لكن إذا نظرت إلى الارتباطات مع عوائد السنوات العشر اللاحقة، فحين تصل إلى تلك المنطقة فإنك تحصل على عوائد متدنية للغاية.”
- داليو يرى فقاعة تتشكّل.. ويشير إلى أن هناك دائماً عنصراً ما يفجّر الفقاعة.
- يستبعد الملياردير أن يكون ذلك ناتجاً عن تشديد السياسة النقدية، لكنه يرى أن زيادة الضرائب على الثروة قد تكون أحد العوامل المحتملة.
- ويضيف داليو: “الصورة واضحة إلى حد بعيد: نحن في منطقة الفقاعة، لكن لم يحدث وخز الفقاعة بعد.”
- ينصح داليو المشاركين في السوق بتنويع محافظهم الاستثمارية عبر أدوات مثل الذهب، الذي يُنظر إليه منذ زمن طويل كملاذ آمن، وقد ارتفع هذا العام إلى مستويات قياسية تاريخية.
موجة صعود.. ولكن!
وإلى ذلك، يؤكد خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي في جامعة سان هوزيه الحكومية بولاية كاليفورنيا، الدكتور أحمد بانافع، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن:
- الاقتصاد الأميركي يعيش خلال الأعوام الأخيرة موجة صاعدة غير مسبوقة، تقودها ثورة الذكاء الاصطناعي التي تحولت إلى رافعة مركزية للنمو وإحدى أهم أدوات واشنطن للحفاظ على تفوقها التكنولوجي والاقتصادي.
- الشركات العاملة في الذكاء الاصطناعي والرقائق ومراكز البيانات أصبحت صاحبة التأثير الأكبر في ارتفاع مؤشرات الأسهم وتعزيز الإنتاجية وجذب رؤوس الأموال.
- رغم هذا الزخم، يُطرح سؤال محوري حول مستقبل هذه الطفرة: ماذا لو تباطأت أو واجهت عراقيل بنيوية؟
- الإجابة لا تتعلق بالأسواق فقط، بل تمتد إلى الأمن القومي الأميركي نفسه، في ظل التحول الجذري الذي أحدثته هذه التقنيات في بنية الاقتصاد.
ويشرح بانافع أبرز ركائز هذه الطفرة، بداية من مساهمة الذكاء الاصطناعي المتصاعدة في النمو الاقتصادي (..) كما يلفت إلى التوسع الهائل في البنية التحتية الرقمية، إذ تحولت مراكز البيانات إلى قطاع مستقل باستثمارات بمئات المليارات، خصوصاً في ولايات مثل تكساس وأريزونا ونيفادا، نظراً لمتطلبات الطاقة والتبريد الضخمة.
ويضيف أن الطفرة خلقت طلباً قياسياً على وظائف عالية المهارة، تشمل مهندسي البيانات وخبراء الأمن السيبراني ومطوري النماذج، في وقت تشهد فيه قطاعات تكنولوجية تقليدية موجات تسريح. كذلك قفزت أرباح شركات عملاقة مثل إنفيديا ومايكروسوفت وألفابت إلى مستويات باتت تؤثر مباشرة في أداء الاقتصاد الأميركي ككل.
في المقابل، يحذر من جملة مخاطر تهدد استمرارية الطفرة، أبرزها:
- أزمة الطاقة الناتجة عن الاستهلاك المتسارع لمراكز البيانات وما يفرضه من ضغط على شبكات الكهرباء.
- هشاشة سلاسل توريد الرقائق، حيث قد يؤدي أي تأخير في تشغيل المصانع الجديدة إلى تباطؤ واسع.
- النقاشات التنظيمية المتعلقة بالشفافية وقدرات النماذج قد ترفع كلفة الامتثال وتحد من الابتكار.
- احتمال نشوء فقاعة تكنولوجية، مع ارتفاع التقييمات إلى مستويات تستدعي الحذر.
- التحديات البيئية، وعلى رأسها استهلاك كميات هائلة من المياه لتبريد مراكز البيانات وخاصة في ولايات تعاني أصلاً من شح المياه مثل كاليفورنيا.
تهديدات
ويبيّن بانافع أن تباطؤ هذه الطفرة سيترك أثراً مباشراً على النمو الأميركي، الذي يعتمد حالياً على أداء شركات الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى احتمال تعرض أسهم التكنولوجيا لموجات بيع عالمية، وتراجع الإنتاجية، وتآكل القدرة التنافسية أمام الصين، فضلاً عن تجميد الاستثمارات الضخمة في قطاعات الرقائق ومراكز البيانات، وانعكاسات ذلك على سوق العمل.
أميركا تتيح تصدير شرائح ذكاء اصطناعي لـG42
ورغم حجم التحديات، يرى بانافع أن السيناريو الأكثر واقعية ليس الانهيار بل التباطؤ المرحلي، مرجعاً ذلك إلى تحول الذكاء الاصطناعي إلى جزء من الأمن القومي الأميركي، وتواصل الإنفاق الفيدرالي الضخم على البنية التحتية للرقائق، والمنافسة المحتدمة مع الصين، إضافة إلى أن انتقال بنية الاقتصاد نحو مراكز البيانات بات أمراً راسخاً.
ويختم قائلاً:
- “طفرة الذكاء الاصطناعي ليست مجرد موجة تكنولوجية، بل تحول اقتصادي عميق يعيد تشكيل موقع الولايات المتحدة عالمياً”.
- “رغم التحديات المرتبطة بالطاقة والتنظيم وسلاسل التوريد، سيظل الذكاء الاصطناعي محوراً رئيسياً للاقتصاد الأميركي وركيزة أساسية لنفوذه في القرن الحادي والعشرين.”
“جيميناي 3”.. ابتكارات غوغل تقفز بالذكاء الاصطناعي

