في أمسية موسيقية استثنائية، شهدت بيروت حدثًا فنيًا لامعًا بمشاركة الأوركسترا الفلهارمونية الوطنية اللبنانية تحت قيادة المايسترو الإسباني دافيد خمينيث كاريراس، الذي يُعد من أبرز القادة الموسيقيين في العالم.
الحفل، الذي أقيم في الكنيسة الإنجيلية الأرمنية الأولى في بيروت، نظمته الدكتورة هبة القواس، رئيسة المعهد الوطني العالي للموسيقى، وجاء كرسالة ثقافية تهدف إلى تعزيز مكانة لبنان على الخريطة الموسيقية العالمية.
ووسط حضور غفير من عشاق الموسيقى الكلاسيكية، امتلأت الكنيسة بجو من الترقب والشغف لرؤية المايسترو كاريراس، الذي يُعتبر واحدًا من أكثر الأسماء احترامًا في الساحة الموسيقية العالمية. وخلال الأمسية، افتتحت الدكتورة هبة القواس الفعالية بكلمة معبرة، قالت فيها: “هذه الأمسية ليست مجرد حدث موسيقي، بل لحظة تُعيدنا إلى أنفسنا، تُعرّفنا بتاريخنا، وتمنحنا الفرصة للاستماع إلى نبضنا من خلال لغة موسيقية لا تحتاج إلى ترجمة”. وأكدت القواس على الأثر التاريخي العميق للموسيقى الإسبانية في الهوية الثقافية اللبنانية، قائلة إن إسبانيا ليست مجرد حضور جغرافي، بل “ترٌ اهتزّ في حمضنا النووي الموسيقي”. وأشارت إلى أن الموسيقى هي أكثر من مجرد روابط سياسية أو ثقافية، بل هي ذاكرة مشتركة وتاريخ حيوي بين البلدين.
وتحدثت القواس عن علاقتها الشخصية مع المايسترو كاريراس، مشيرة إلى صداقتهما التي بدأت في عام 2006 عندما قاد كاريراس الأوركسترا بينما كانت هي تقف إلى جانب خوسيه كاريراس، عمّه، في حفلة موسيقية. وذكرت أنهما يتشاركان في تاريخ الميلاد ذاته في 17 يوليو، مما أضاف بعدًا شخصيًا ووجدانيًا لهذا اللقاء الفني المميز. وأضافت: “ديفيد هو قائد أوركسترا يجمع بين الصرامة الواضحة للمدرسة النمساوية والنار المضيئة للفن الإسباني. لقد قاد الأوركسترا حول العالم لعقود، وكان دائمًا يظهر شغفًا كبيرًا وتفانيًا في عمله”.
فيما يخص الأوركسترا الفلهارمونية الوطنية اللبنانية، وصفت القواس الأداء بأنه “مقاومة جمالية”، مؤكدة أن الموسيقى لديها القدرة على تحويل الواقع إلى نور، معبرة عن فخرها بجميع العازفين الذين يحملون مسؤولية نشر الجمال والشغف. وأضافت أن المعهد الوطني العالي للموسيقى، في ظل الظروف الصعبة، يواصل دوره في نشر الثقافة الموسيقية في لبنان، معبرة عن استعدادها لموسم موسيقي طويل في ديسمبر القادم، مع العديد من الحفلات في مختلف مناطق لبنان.
أما المايسترو كاريراس، فقد تميز في قيادته للأوركسترا بأسلوبه الفريد الذي لا يعتمد على الحركات الزائدة، بل على الإيماءات الدقيقة التي ترسم اتجاهًا واضحًا للموسيقيين. وقاد الأوركسترا ببراعة، حيث تجلت قدرته على خلق تناغم بين العازفين وتوجيههم بعناية، ما جعل الأداء الموسيقي يأخذ طابعًا مميزًا يتميز بالأناقة والوضوح.
كما كان الحفل فرصة للاحتفاء بالمؤلفين اللبنانيين، حيث قدمت الأوركسترا أعمالًا لبنانية، في خطوة تعكس توجه القواس المستمر لتقديم الموسيقى اللبنانية إلى جانب الأعمال الكلاسيكية العالمية. ومن أبرز الأعمال التي قدمتها الأوركسترا، كانت السمفونية الرابعة لبيتهوفن، التي تم تنفيذها بدقة عالية، وأظهرت قدرة الأوركسترا على التحكم الكامل في الديناميكيات الموسيقية المعقدة. وأعقبها تقديم مقطوعات لبنانية من تأليف جمال أبو الحسن، مثل “رقصة الجرار” و”فراشة وزهرة”، اللتين أضافتا لمسة من الجمال الشعبي اللبناني مع طابع أوركسترالي معاصر.
ثم انتقل الحفل إلى أجواء موسيقية إسبانية، مع تقديم مجموعة من مقطوعات الأوبرا الشهيرة “كارمن” لجورج بيزيه، التي عزفتها الأوركسترا ببراعة، وأظهرت الفروق الدقيقة في الأداء بين الآلات الوترية والنحاسية. أما الختام، فكان مع Capriccio Espagnol لريمسكي كورساكوف، وهو عمل موسيقي يتطلب مهارة فائقة في الأداء، وهو ما نجحت الأوركسترا في تحقيقه بامتياز، حيث تألقت في تقديم الحركات المتنوعة لهذه القطعة.
الجمهور، الذي تفاعل مع الحفل بشكل حيوي، شهد تواصلاً عميقًا مع الموسيقى، حيث أمضوا الأمسية بين لحظات من الصمت والتأمل، وأخرى من التصفيق الحار. ومن خلال هذه الأمسية، أثبت لبنان مرة أخرى قدرته على تقديم مشهد موسيقي متميز ومتطور، يحمل في طياته رسائل ثقافية وفنية هامة، ويعزز دور الموسيقى كوسيلة حضارية للنهوض بالوجدان الجماعي وإعادة لبنان إلى موقعه الثقافي الرفيع.










