بقلم: محمد نشبت مع يورونيوز
نشرت في
فبعد أيام فقط، أكدت وزارة الأمن الإسرائيلية أن المديرية الجديدة ستعمل على توفير “حزمة شاملة” للراغبين في المغادرة، تشمل ترتيبات بحرية وجوية وبرية، وبمساعدة دول ثالثة.
وبالتوازي مع ذلك، بدأت على الأرض تتبلور أدوار لجهات ومنظمات غير حكومية، يقدّم بعضها نفسه كفاعل إنساني، لكنه يعمل وفق نمط يتقاطع، وفق ما أوردته وسائل إعلام إسرائيلية، مع التصور الرسمي الإسرائيلي لما يُسمّى “الهجرة الطوعية”. في هذا السياق، برز اسم مؤسسة “المجد أوروبا”، التي تحولت خلال أشهر قليلة إلى محور جدل حقوقي وسياسي واسع، بعد تنظيمها رحلات جوية نقلت مئات الفلسطينيين من قطاع غزة إلى دول بعيدة، عبر مسارات غير مألوفة، وبالتنسيق مع جهات إسرائيلية رسمية.
هذا التقرير يحاول تفكيك صورة هذا “التهجير الناعم”، من خلال تتبع المسار السياسي والقانوني، ودور “المجد أوروبا”، وشهادات إنسانية، وصولًا إلى الأسئلة المفتوحة حول الدوافع الحقيقية والنتائج بعيدة المدى.
سياسة مُعلنة: من الخطاب إلى المؤسسة
إعلان يسرائيل كاتس لم يأتِ في فراغ. فمنذ الأشهر الأولى للحرب على غزة، تصاعدت تصريحات وزراء وأعضاء كنيست إسرائيليين دعت صراحة إلى “إفراغ القطاع من سكانه”، باعتبار ذلك “حلًا أمنيًا”. ومع طرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في فبراير/شباط الماضي فكرة “الهجرة الطوعية” وتحويل غزة إلى مشروع اقتصادي، بدا أن المناخ السياسي بات مهيأً لبلورة سياسة رسمية في هذا الاتجاه.
إنشاء “مديرية الهجرة الطوعية” داخل وزارة الدفاع الإسرائيلية، برئاسة مسؤول رفيع، وضع هذه الفكرة في إطار بيروقراطي منظم. ووفق بيانات رسمية إسرائيلية، كُلّفت المديرية بالتنسيق مع منسق أعمال الحكومة في المناطق (COGAT)، وبناء قنوات اتصال مع منظمات ودول يُعتقد أنها مستعدة لاستقبال غزيين.
في هذا السياق، لم تعد “المغادرة” شأناً فردياً معزولاً، بل جزءًا من سياسة تُدار من أعلى المستويات، في وقت تُدمَّر فيه مقومات الحياة داخل القطاع بشكل واسع.
“المجد أوروبا”: منظمة إنسانية أم وسيط تهجير؟
تعرّف “المجد أوروبا” نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها “منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا”، تعمل على إغاثة المجتمعات المسلمة في مناطق النزاع. غير أن تحقيقات صحافية، أبرزها تحقيق نشرته صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، كشفت تناقضات جوهرية في هذا التعريف.
بحسب التحقيق، لا وجود لسجل رسمي للمنظمة في ألمانيا أو القدس، رغم ادعائها أن مقرها في حي الشيخ جراح. كما أُنشئ موقعها الإلكتروني في فبراير/شباط 2025، ويحتوي على صور أرشيفية وروابط غير فعّالة. إضافة إلى ذلك، برز ارتباط بينها وبين شركة إستونية تُدعى “Talent Globus”، يملكها شخص يحمل الجنسيتين الإسرائيلية والإستونية، هو تومر جانار ليند.
الأخطر، وفق ما أوردته “هآرتس”، أن “المجد أوروبا” كانت الجهة الوحيدة التي حصلت على موافقة رسمية من مديرية الهجرة الإسرائيلية لتنظيم رحلات خروج من غزة، بعد إحالتها مباشرة إلى منسق أعمال الحكومة في المناطق (COGAT).
رحلات غامضة ومسارات غير مألوفة
من مايو/أيار حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2025، سيّرت “المجد أوروبا” ثلاث رحلات جوية على الأقل، وفق مصادر إعلامية وشهادات مسافرين.
في الرحلة الأولى، نُقل 57 غزياً من مطار رامون إلى بودابست، قبل مواصلة السفر إلى إندونيسيا. أما الرحلة الثانية، فقد ضمت نحو 150 فلسطينياً سافروا من رامون إلى نيروبي، ثم إلى جوهانسبرغ. وفي الرحلة الثالثة، التي سلكت المسار ذاته، بلغ عدد المسافرين 153 شخصًا، واحتُجز ركابها لساعات طويلة داخل مطار جوهانسبرغ.
ووفق شهادات مسافرين تحدثوا للتقرير، طُلب منهم دفع مبالغ تراوحت بين 1500 و2700 دولار للفرد، والتجمع قبل ساعات من السفر، وعدم حمل أمتعة سوى الهواتف المحمولة وجوازات السفر.
جرى نقل المسافرين بحافلات إسرائيلية من داخل قطاع غزة، عبر معبر كرم أبو سالم، إلى مطار رامون، دون ختم جوازاتهم، ما تسبب لاحقًا في مشكلات قانونية عند الوصول إلى دول المقصد.
شهادات من الداخل: تجارب متباينة ومسارات غير مضمونة
أحمد، اسم مستعار، يقول إنه تعرّف إلى مؤسسة “المجد أوروبا” عبر إعلانات ممولة ظهرت له على تطبيق “إنستغرام”، قبل أن يتلقى تشجيعًا من أصدقاء أكدوا له أن معارف لهم تمكنوا من السفر عبر المؤسسة إلى جنوب أفريقيا، ومنها انتقلوا إلى دول أخرى.
يوضح أحمد أنه تقدّم بطلب عبر الموقع الإلكتروني للمؤسسة، وأدخل جميع البيانات المطلوبة له ولأفراد أسرته، إلا أنه بعد الموافقة المبدئية تلقى اتصالًا طُلب فيه منه دفع مبلغ قدره 2000 دولار عن كل فرد من أفراد الأسرة. ويضيف: “نحن أسرة مكوّنة من خمسة أشخاص، وعندما علمت بحجم المبلغ المطلوب، أدركت أن الأمر يفوق قدرتي، فتراجعت عن فكرة السفر”.
سوسن، اسم مستعار أيضًا، تروي تجربة مختلفة. تقول إنها نجحت في الخروج من قطاع غزة عبر “المجد أوروبا”، وسافرت أولًا إلى إندونيسيا، ثم تمكنت لاحقًا من الوصول إلى هولندا. وتوضح أنها دفعت ما يقارب 4500 دولار مقابل الرحلة، مشيرة إلى أن انتقالها من إندونيسيا إلى أوروبا لم يكن جزءًا من ترتيب المؤسسة، بل تم بفضل مسارات أخرى خارج إطارها. وتضيف: “المؤسسة سهّلت خروجي من غزة فقط، أما باقي الطريق فكان جهدي الشخصي”.
أما مُعدّ التقرير، فيقول إنه تعرّف إلى المؤسسة في منتصف عام 2025 بعد أن أرسل له أحد أصدقائه رابطها عبر “فايسبوك”. وبعد نقاش عائلي طويل، قرر التقدّم بطلب سفر فردي، نظرًا لتعقيد وكلفة سفر الأسرة كاملة. ويضيف أنه انتظر أكثر من ثلاثة أشهر دون رد واضح، قبل أن يسمع، من خلال حديثه مع آخرين، أن المؤسسة تركز على طلبات العائلات، وأن المتقدمين يخضعون لفحص أمني غير مُعلن مرتبط بجهات أمنية، ما دفعه إلى إعادة النظر في التجربة برمتها، في ظل غياب الشفافية حول معايير القبول ومصير البيانات الشخصية.
هل ما يجري “مغادرة طوعية” أم تهجير قسري؟
يقول إيهاب النحال، الخبير في القانون الدولي، إن توصيف ما يجري على أنه “مغادرة طوعية” لا يستقيم قانونيًا إذا جرى في سياق حرب تُدمَّر فيها مقومات الحياة الأساسية.
ويوضح أن القانون الدولي الإنساني يقيّم حرية الاختيار بناءً على البيئة المحيطة بالقرار، مضيفًا: “عندما يُحرم السكان من الأمن والخدمات وسبل العيش، يصبح قرار المغادرة نتاج ضغط قسري، لا إرادة حرة”.
ويشير النحال إلى أن اتفاقية جنيف الرابعة تحظر النقل القسري للسكان، سواء تم بالقوة المباشرة أو عبر خلق ظروف معيشية تدفعهم إلى الرحيل، مؤكدًا أن إعادة توصيف هذه العمليات بلغة “الاختيار الفردي” لا تُسقط المسؤولية القانونية عن قوة الاحتلال.
موقف دول الاستقبال: حيرة وتحقيقات
جنوب أفريقيا، التي وجدت نفسها أمام طائرات تقل فلسطينيين دون تنسيق مسبق، أعلنت أنها “مندهشة” من الطريقة التي وصل بها الركاب. وقال الرئيس سيريل رامافوزا: “لا يمكننا إعادتهم… إنهم قادمون من بلد مزقته الحرب”، لكنه أكد في الوقت نفسه فتح تحقيق في ملابسات الرحلات.
دول أخرى، مثل إندونيسيا، بدأت تشدد إجراءات الدخول، وسط مخاوف من أن تتحول إعفاءات التأشيرة إلى أداة لتهجير منظم.
الدوافع السياسية خلف الغطاء الإنساني
يتزامن نشاط “المجد أوروبا” مع مرحلة سياسية إسرائيلية حساسة تتعلّق بما يُعرف بـ”اليوم التالي لغزة”، ومع بحث رسمي عن دول مستعدة لاستقبال فلسطينيين خارج القطاع. ووفق تقارير إعلامية إسرائيلية، أُجريت محادثات مع عدد من الدول أو الأقاليم، من بينها إندونيسيا والصومال وجنوب السودان.
في هذا السياق، يُطرح تساؤل جوهري حول ما إذا كانت بعض المبادرات ذات الطابع الإنساني تتحول، بقصد أو دون قصد، إلى أدوات تنفيذية تُخفّف الكلفة السياسية لسياسات تهجير أوسع، عبر إعادة تقديمها في إطار “خيار فردي” معزول عن سياقه القسري العام.

