نشرت في
في مثل هذا اليوم من عام 1951، خرجت الدولة الليبية الموحّدة من تحت ركام “الاستعمار الأجنبي”، لتُمسك للمرة الأولى بقرارها الوطني. غير أن الذكرى الرابعة والسبعين للاستقلال تعود اليوم لتجد البلاد مثقلة بأزمات متراكمة في ظل انقسام سياسي وضغوط اقتصادية وتدخلات خارجية.
ويرى مراقبون أنّ المشهد الليبي الراهن بات يستحضر، في كثير من تفاصيله، ظروف ما قبل الاستقلال عام 1951، حين كانت البلاد ترزح تحت وطأة التشتت والتقسيم الثلاثي (برقة، طرابلس، وفزان).
ومنذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011 بعد عقود من الحكم الشمولي، انزلقت ليبيا في نفق مرحلة انتقالية مضطربة، أفرزت صراعات داخلية وتوترات أمنية عميقة أدت إلى ظهور الجماعات المسلحة وتعدد مراكز القوة.
وأدى هذا الواقع إلى انقسام مؤسساتي حاد، تدير من خلاله البلاد اليوم حكومتان متنافستان، وهما حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، التي تتخذ من العاصمة طرابلس في الغرب مقرا لها وتحظى بالاعتراف الدولي، والحكومة الليبية في الشرق، المدعومة من البرلمان والمشير خليفة حفتر، ومركزها في مدينة بنغازي، ما أسهم في تعميق الأزمة وإطالة أمد الانسداد السياسي.
حادث الطائرة يضيف مأساة جديدة
وبينما كان الليبيون يتهيأون لإحياء ذكرى الاستقلال، سقطت طائرة من طراز “فالكون-50” في ضواحي العاصمة التركية، ما أدى إلى مقتل الفريق أول محمد الحداد، رئيس أركان القوات في الغرب الليبي، ومرافقيه.
وأكد رئيس الوزراء الليبي عبد الحميد الدبيبة تلقيه نبأ وفاة رئيس أركان الجيش الليبي ومرافقيه، وهم كل من رئيس أركان القوات البرية الفريق ركن الفيتوري غريبيل ومدير جهاز التصنيع العسكري العميد محمود القطيوي ومستشار رئيس الأركان العامة للجيش الليبي محمد العصاوي دياب والمصور بمكتب إعلام رئيس الأركان العامة محمد عمر أحمد محجوب أثناء عودتهم من أنقرة.
وأفاد وزير الداخلية التركي، علي يرلي كايا، بأنه تم العثور على الصندوق الأسود للطائرة، وأن التحقيقات قد تستمر لعدة أشهر. وحتى الآن، تظل الرواية الرسمية الوحيدة لحادث سقوط الطائرة، والتي فقد الاتصال بها بعد 20 دقيقة من إقلاعها، تشير إلى وقوع “عطل كهربائي”.
من جانبه، أعرب المشير خليفة حفتر عن حزنه العميق لوفاة الفريق أول ركن محمد الحداد، مقدمًا التعازي لكافة ضباط ومنتسبي القوات المسلحة على فقدان “أحد رجالاتها الذين أدوا واجبهم العسكري بكل تفانٍ ومسؤولية وتحملوا الأمانة في مراحل دقيقة من تاريخ الوطن”، وفق البيان الرسمي.
جدل على وسائل التواصل: “اغتيال أم خلل تقني؟”
منذ الساعات الأولى لإعلان الحادث، انقسمت التفاعلات الشعبية إلى تيارين رئيسيين.
تيار رأى في الرواية الرسمية، التي تتحدث عن عطل كهربائي أبلغت به الطائرة قبل فقدان الاتصال، تفسيرًا منطقيًا لحادث طيران يمكن أن يقع في أي مكان في العالم.
في المقابل، ذهب تيار آخر إلى التشكيك، مستحضرًا تاريخ ليبيا الحديث المليء بالاغتيالات والتصفيات الغامضة، ومعتبرًا أن منصب الحداد وحساسية تحركاته الإقليمية يفتحان الباب أمام فرضيات أكثر تعقيدًا.
ولا يمكن فصل هذا الجدل عن حالة عامة من انعدام الثقة في المؤسسات، حيث بات جزء من الرأي العام الليبي يتعامل مع أي حادث كبير بوصفه “رسالة سياسية” قبل أن يكون واقعة تقنية.
من يحرك المشهد الليبي؟
تبدو رفاهية القرار الليبي المستقل مضمحلة أمام صراع النفوذ المحتدم.
ففي الغرب، تبرز تركيا وقطر كداعمين استراتيجيين لحكومة طرابلس، حيث تلعب أنقرة دوراً محورياً عسكرياً واقتصادياً يفسر طبيعة الزيارات الرفيعة كزيارة الحداد الأخيرة.
في المقابل، يشكل المحور المصري الإماراتي عمودًا استراتيجيًا لمساندة معسكر المشير خليفة حفتر في شرق ليبيا. فالقاهرة وأبوظبي تتعاملان مع الملف الليبي من منظور أمني، يهدف إلى “تأمين الحدود ومكافحة التنظيمات المسلحة المتطرفة”، و”ضمان استقرار المناطق الشرقية والجنوبية”.
وبالتوازي مع هذا الصراع الإقليمي، تدور رحى “حرب باردة” بين روسيا التي تسعى لترسيخ موطئ قدم دائم لها في المتوسط، مستخدمة ليبيا منصة لتعزيز نفوذها في شمال إفريقيا وساحل المتوسط. ويتم ذلك عبر دعم قوات “الفيلق الأفريقي” المرتبطة بالجيش الوطني الليبي،والمتمركزة بشكل رئيسي في الشرق والجنوب.
في المقابل، تحاول الولايات المتحدة والدول الأوروبية الموازنة بين حماية تدفقات الطاقة ومنع موجات الهجرة، في مسعى للحفاظ على مصالحها الأمنية والاقتصادية في المنطقة.

