كتب – أحمد زكي : في واحدة من حفلات السيدة أم كلثوم التي كانت تمثل ذروة المشهد الثقافي والفني في مصر والعالم العربي، تحولت لحظة ارتباك عابرة إلى واقعة دالة تكشف عن عمق العلاقة بين الفن والمجتمع، وعن تداخل اللغة باللهجة، والمعنى بالسياق. حادثة بدت في ظاهرها صادمة، لكنها في جوهرها جسّدت قدرة الفن الراقي على استيعاب الاختلاف وتحويل التوتر إلى وعي وضحك، مؤكدة أن أم كلثوم لم تكن مجرد صوت استثنائي، بل ظاهرة ثقافية كاملة.
بحسب روايات متداولة في الذاكرة الشفوية للحركة الموسيقية المصرية، كانت أم كلثوم تقف على خشبة المسرح في إحدى حفلاتها المكتملة العدد، حيث اعتاد الجمهور أن يكون شريكًا فاعلًا في التجربة الطربية، عبر التفاعل والهتاف والتصفيق. وفي ذروة الأداء، انطلق صوت رجل من آخر القاعة بهتاف بدا في لفظه جارحًا ومفاجئًا، ما أحدث حالة من الصمت والارتباك داخل الصالة، وتباينت ردود الفعل بين الدهشة والضحك.
انعكست هذه اللحظة على ملامح أم كلثوم، التي توقفت عن الغناء وقد بدا عليها الاستياء، في مشهد يعكس مكانة المسرح وقدسيته في الوجدان الفني آنذاك، حيث لم يكن مقبولًا أن يُكسر الإيقاع أو تُمس هيبة الفنان. ومع تصاعد التوتر، تدخل أحد أعضاء الفرقة الموسيقية، عازف الإيقاع حسن أنور، موضحًا الخلفية اللهجية للهتاف، ومبينًا أن الاختلاف الصوتي في نطق بعض الحروف بين اللهجات المصرية قد أدى إلى سوء فهم المعنى المقصود.
هذا التفسير أعاد قراءة الواقعة من منظور لغوي-اجتماعي، كاشفًا أن ما بدا إهانة في ظاهره لم يكن سوى تعبير إعجاب مبالغ فيه بلهجة محلية، ترى في التشبيه بالـ«قاموس» دلالة على المرجعية والأصالة. وبذلك، انتقلت الحادثة من كونها أزمة محتملة إلى نموذج حي لكيفية تصادم الدلالة اللفظية مع السياق الثقافي.
رد الفعل والدلالة
تجلّت براعة أم كلثوم في إدارتها للموقف، حين اختارت ردًا ساخرًا ذكيًا أعاد السيطرة على المسرح، وحوّل التوتر إلى ضحك جماعي، مستعيدة بذلك حالة الانسجام بين الفنان والجمهور. هذا الرد لم يكن مجرد تعليق عابر، بل ممارسة واعية للسلطة الرمزية التي كانت تمتلكها، وقدرة على احتواء اللحظة دون تصعيد أو انسحاب.
وتحمل الواقعة دلالات أعمق تتجاوز طرافتها، إذ تبرز أهمية الوعي باللهجات داخل المجتمع الواحد، وتؤكد أن الفن، بوصفه ممارسة اجتماعية، لا ينفصل عن البنية اللغوية والثقافية للجمهور. كما تسلط الضوء على الدور غير المرئي للفرقة الموسيقية، ليس فقط ككيان فني داعم، بل كوسيط ثقافي يحمي العرض من الانكسار.
حين كان المسرح فضاء للإبداع
تُعد هذه الواقعة واحدة من الشواهد الدالة على زمن كان فيه المسرح فضاءً للحوار الإنساني بقدر ما هو مساحة للطرب. وهي تؤكد أن أم كلثوم لم تُخلَّد بصوتها وحده، بل بذكائها الاجتماعي وقدرتها على إدارة اللحظة، وتحويل سوء الفهم إلى درس ثقافي. هكذا بقيت في الذاكرة العربية رمزًا للفن الواعي، و«مرجعًا» لا تهزه لحظات الالتباس، بل تزيده رسوخًا في الوجدان الجمعي.
إقرأ أيضاً :

