كتبت — مروة الشريف : في قلب العاصمة المصرية، وعلى ضفاف النيل في جاردن سيتي، يقف فندق شبرد التاريخي شامخًا، كأحد أهم معالم القاهرة السياحية وفخر تاريخ الضيافة في مصر. لكن وراء هذا الاسم الأيقوني يقف رجل بسيط من إنجلترا صنع من فكره وشغفه حكاية خالدة في ذاكرة المدينة — الخواجة صموئيل شبرد.
من أين جاء شبرد؟
ولد صموئيل شبرد في مطلع القرن التاسع عشر في إنجلترا، ووفد إلى مصر بحثًا عن فرصة عمل وحياة جديدة. بحسب مصادر تاريخية، بدأ شبرد حياته المهنية في القاهرة بمهام بسيطة، ثم سرعان ما اتجه إلى عالم الأعمال في مجال الضيافة بافتتاحه فندقًا صغيرًا في حي الأزبكية عام 1841، أطلق عليه حينها اسم الفندق البريطاني (Hotel des Anglais).
نشأة فندق شبرد
بدأ المشروع كمبنى متواضع، لكنه سرعان ما تحول إلى أحد أفخم فنادق القاهرة بعد أن استثمر شبرد فيه روح الإبداع والضيافة الأوروبية، ليُعرف لاحقًا باسم فندق شبرد (Shepheard’s Hotel)، نسبة إليه.
هنا تميز شبرد عن الكثير من أبناء جيله، ليس فقط كرجل أعمال، بل كفارس للنموذج البريطاني في الاستقامة والكرم، حتى إنه عندما ترك بعض الضباط الإنجليز الفندق مدينين، سافر بنفسه إلى سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم لتحصيل الديون.
الشهرة العالمية
خلال عقود قليلة، تحول الفندق إلى نقطة التقاء النهضة والسياحة العالمية:
-
استضافت قاعات الفندق احتفاليات ومناسبات كبرى، أبرزها احتفالات افتتاح قناة السويس عام 1869 بحضور الملكة الفرنسية أوجيني والخديو إسماعيل.
-
صار الفندق قبلة للمسافرين من أوروبا والولايات المتحدة ورجال الأعمال والملوك.
-
أصبح عنوانًا للفخامة في الشرق الأوسط، وكان حديث الصحافة العالمية في نصف القرن التاسع عشر.
عصر جديد بعد شبرد
في عام 1861 باع شبرد الفندق بمبلغ قدره 10,000 جنيه إسترليني (ما يعادل نحو مليوني دولار اليوم) وتقاعد في إنجلترا.
وبالرغم من رحيله، استمرت قصة الفندق في التألق:
-
تعرض المبنى الأصلي لحريق في 1952 خلال أحداث حريق القاهرة الشهير، مما أدى إلى تدميره جزئيًا.
-
أُعيد بناؤه في موقع جديد في جاردن سيتي عام 1957 على ضفاف نهر النيل، وأصبح جزءًا من التراث العمراني للعاصمة.
التراث وإعادة الإحياء
اليوم، وبعد أكثر من 180 عامًا على تأسيسه، يخضع فندق شبرد لعملية تطوير وتجديد ضخمة تهدف إلى إحيائه كمركز ضيافة عالمي من خلال شراكات بين الحكومة المصرية وشركات عالمية مثل مجموعة ماندارين أورينتال، بالشراكة مع مجموعة الشريف السعودية.
المشروع لا يهدف فقط إلى تجميل المبنى، بل إلى إعادة الروح التاريخية للفندق ورفع تصنيفه إلى فندق خمس نجوم مع مراعاة إرثه الثقافي والمعماري العريق.
إرث الخواجة شبرد
إن قصة صموئيل شبرد ليست مجرد قصة رجل أنشأ فندقًا في مدينة أجنبية، بل هي سجل لصناعة الحضارة الفندقية في مصر والشرق الأوسط. لقد جمع بين روح المبادرة الأوروبية وفهم عميق لثقافة الضيافة المحلية، ليصنع أثرًا يتجاوز حدود المكان والزمان.
الفندق الذي بدأ كحلم صغير في الأزبكية أصبح رمزًا وطنياً عالميًا، وشهادة على أن الحضارة تصنعها شخصيات غير متوقعة، تحمل الشغف في قلوبهم وتتركون بصمة لا تُمحى في التاريخ.
حجر الأساس لأسطورة بدأت من حي الأزبكية
لا تنطق جدران “كورنيش جاردن سيتي” بالكلمات، لكنها تهمس بحكايات “الخواجة شبرد” الذي وضع حجر الأساس لأسطورة بدأت من حي الأزبكية العتيق واستقرت على ضفاف النيل.
اليوم، يستعد فندق “شبرد” الأسطوري لارتداء حلته العالمية الجديدة بتوقيع سعودي وإدارة صينية، ليثبت للعالم أن “الذهب لا يصدأ”، وأن التاريخ حين يمتزج بالاستثمار الذكي، يولد “أيقونة” لا تُنافس.
لم يكن “شبرد” مجرد فندق، بل كان “غرفة عمليات” سياسية واستخباراتية عالمية. ففي أروقة فرعه القديم بالأزبكية، وتحديداً في “البار الطويل” الشهير، صيغت صفقات ورسمت سياسات بحضور ملوك وأمراء وضباط الجيش البريطاني.
ورغم أن “حريق القاهرة” في السبت الأسود (يناير 1952) التهم الفندق وحوله إلى رماد، إلا أن شبرد رفض الاندثار.
فبعد خمس سنوات فقط (1957)، وُلد من جديد في موقعه الحالي بجاردن سيتي، ليظل حارس النيل الأمين، حتى تقادم الزمن واستوجب الأمر “وقفة استثمارية” تعيده إلى مصاف القمة العالمية.
التحالف الثلاثي.. 90 مليون دولار لإعادة الصياغة
يعيش الفندق حالياً أكبر عملية “إعادة هيكلة وتطوير” في تاريخه، وفق معادلة استثمارية ذكية تجمع بين ثلاث أطراف:
المالك: الدولة المصرية (ممثلة في شركة إيجوث).
الممول والمطور: “مجموعة الشريف” السعودية، باستثمارات تتجاوز 90 مليون دولار.
المشغل: مجموعة “ماندارين أورينتال” الصينية.
بموجب العقد، تقوم “مجموعة الشريف” بتطوير وتشغيل الفندق لمدة 35 عاماً، مع نظام مشاركة في الأرباح بنسب متغيرة (69% للمجموعة و31% للدولة في العقد الأول)، على أن يعود الفندق بكامل تطويره وإدارته لحضن الدولة المصرية في نهاية المدة.
معايير الرفاهية الفائقة
المفاجأة الكبرى تكمن في هوية المشغل؛ إذ سيدخل الفندق حلبة المنافسة العالمية تحت اسم “ماندارين أورينتال شبرد القاهرة”.
وتُعد هذه المجموعة المصنفة رقم (1) عالمياً في فئة “الفخامة الفائقة” (Ultra-Luxury)، مما يعني أن شبرد سينافس فنادق لندن وباريس ونيويورك من قلب القاهرة
الهوية البصرية
تشرف المصممة الفرنسية الشهيرة “سيبيل دي مارجري” على التصميمات لضمان الحفاظ على الروح الكلاسيكية بلمسة عصرية.
التوسعات الإنشائية: إضافة مبنى ملحق بارتفاع 14 طابقاً.
الحلول الذكية: إنشاء جراج تحت الأرض مكون من 4 طوابق لحل أزمة التكدس المروري.
حمام سباحة (Roof-top) بإطلالة بانورامية على النيل، منتجع صحي عالمي، ومطاعم تحت إشراف شيفات حائزين على “نجوم ميشلان”.
لطالما كان الفندق ملهماً للأدباء؛ فخلدت ذكراه الكاتبة العالمية “أجاثا كريستي” في روايتها “البيت المائل”، حيث كان بيتها الثاني في القاهرة. ورغم تأجيل الافتتاح لضمان دقة التنفيذ، تشير التوقعات إلى أن أواخر عام 2026 ستشهد اللحظة الحاسمة لقص الشريط.
“شبرد” ليس مجرد مشروع فندقي، بل هو رسالة استثمارية تؤكد أن سحر القاهرة لا ينضب، وأن “عنقاء النيل” جاهزة للطيران من جديد في سماء الرفاهية العالمية.
إقرأ أيضاً :

