في أمسية موسيقية استثنائية احتضنها معرض رشيد كرامي الدولي في طرابلس، أُعلن عن انطلاق الموسم الجديد للأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق – عربية، في احتفال جمع بين الفن والتراث والهوية الوطنية.
قاد الحفل المايسترو أندريه الحاج بمشاركة الأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق – عربية، والفنانة جاهدة وهبه التي أضاءت بصوتها سماء المدينة، إلى جانب كورال القسم الشرقي في المعهد الوطني العالي للموسيقى بإشراف الأستاذة عايدة شلهوب زيادة.
وجاءت الدعوة من رئيسة المعهد الوطني العالي للموسيقى الدكتورة هبة القواس، بالتعاون مع رئيس مجلس إدارة المعرض ومديره العام الدكتور هاني شعراني.
شكّل الحفل أكثر من مجرد أمسية موسيقية؛ إذ حمل طابعًا رمزيًا يعكس نهوض المؤسسات الثقافية الوطنية واستعادة الدور الحيوي للمعالم التراثية في المشهد اللبناني. فقد جسّد التعاون بين المعهد الوطني العالي للموسيقى ومعرض رشيد كرامي الدولي تلاقحًا بين الثقافة والفكر العمراني، وبين الفن كمشروع وطني والرؤية كممارسة للتجديد.
امتلأت مقاعد المعرض بالجمهور والضيوف الرسميين، فيما تلألأت الأضواء على واجهات المبنى المعماري الفريد الذي صمّمه أوسكار نيماير، ليغدو المشهد لوحة تجمع هيبة المكان وسحر الموسيقى.
افتُتحت الأمسية بعزف النشيد الوطني اللبناني، وقدّمتها الشاعرة والإعلامية ماجدة داغر بكلمات احتفالية أكدت فيها أن اللقاء يجمع “مؤسستين تحملان هوية لبنان الثقافية الخالدة: المعهد الوطني العالي للموسيقى، ومعرض رشيد كرامي الدولي”، مشيدة بدورهما في الحفاظ على إرث الوطن وترسيخ صورته الحضارية.
في كلمته، رحّب الدكتور هاني شعراني بالحضور، مؤكدًا أن المعرض يستعيد اليوم دوره الريادي كمنارة اقتصادية وثقافية وسياحية. وأوضح أن مجلس الإدارة الجديد تمكّن خلال فترة وجيزة من تحقيق قفزة نوعية عبر رقمنة الأنشطة وصيانة البنى التحتية، مشيرًا إلى أن عدد الزوار تجاوز عشرة آلاف خلال أربعين يومًا، بزيادة ملحوظة في الدخل بلغت 300%.
وأكد أن هذا الإنجاز ثمرة تعاون وثقة ودعم من وزارة الثقافة ومنظمة اليونيسكو، في مسعى لإحياء المعرض بوصفه رمزًا وطنياً حيًّا للإبداع والإرادة.
من جهتها، تحدثت الدكتورة جمانة شهال تدمري، عضو مجلس الإدارة ومنسقة الحفل، عن البعد الإنساني للحفل، مشدّدة على أن “الاقتصاد لا يكتمل إلا بالثقافة، والتنمية لا تزدهر إن لم تتنفس من روح الفن”. وأضافت أن المعرض بات فضاءً مفتوحًا يجمع بين الصناعة والشعر، والتكنولوجيا والموسيقى، والفكر والإبداع، ليصبح منصة حضارية تربط بين ماضي لبنان ومستقبله.
أما الدكتورة هبة القواس، فقالت: “حين نصغي إلى الموسيقى، نحن لا نسمع الصوت بل نسمع حضورنا وقد صار نغمة. وها نحن الليلة في طرابلس نصغي إلى أنفسنا، فالمدن تمرض عندما تصمت”.
وأضافت أن إطلاق الموسم الجديد من طرابلس “ليس قرارًا فنيًا، بل رسالة دبلوماسية وثقافية وإنسانية”، معتبرة أن هذا الحدث يعيد “المعنى إلى صوته، والفن إلى موقعه كضرورة وطنية لا كترفٍ”.
كما وجّهت تحية إلى السفيرة سحر بعاصيري سلام، تقديرًا لدورها في تسجيل المعرض على لائحة التراث العالمي خلال عملها في اليونيسكو، مؤكدة أن “المعمار لا يُخلّد بالحجر، بل بالوعي الذي يحميه”.
تألقت الفنانة جاهدة وهبه بصوتها الذي جسّد التقاء التراث بالحداثة. قدمت أمسية بعنوان “أنغام وقصائد” مزجت فيها بين الشعر العربي الكلاسيكي والأداء الأوركسترالي الحديث، فحملت الجمهور في رحلة روحية بين المقامات والأحاسيس.
غنّت وهبه قصائد من أعمال جبران خليل جبران، طلال حيدر، سعاد الصباح، وأبو القاسم الشابي، وأعمالاً من ألحانها الخاصة منها “هوني السما” و“إرادة الحياة”، إلى جانب روائع من ألحان الأخوين رحباني وسيد درويش.
وبرز في الحفل التوزيع الموسيقي الراقي للمايسترو أندريه الحاج الذي أضاف بعدًا أوركستراليًا عميقًا إلى الأغاني، مقدّمًا رؤية معاصرة للأصالة الموسيقية اللبنانية والعربية.
وفي ختام الأمسية، قدّم القيمون على معرض رشيد كرامي الدولي درعًا تكريمية للسفيرة سحر بعاصيري سلام، تقديرًا لدورها في حماية التراث الثقافي اللبناني ودعمها المستمر للمعرض.
أما الختام، فكان بتأكيد أن الموسيقى ليست حدثًا عابرًا بل جسرًا يربط بين الدولة ومؤسساتها الثقافية، بين الفن والهوية، وبين طرابلس التي تستعيد صوتها ولبنان الذي يستعيد معناه.