طرح الفنان ناصيف زيتون أغنيته الجديدة “بكّيتني يا ليل”، ليؤكّد مرّة أخرى أن حضوره الفني مبني على مشروع متماسك لا يخضع للصدفة ولا للضجيج اللحظي، بل لمنهجية عمل دقيقة تسبق كل إصدار.
فاختياره لهذه الأغنية، بكل ما تحمله من حساسية عاطفية ولحن مُتقن، ينسجم مع خطّ موسيقي يصرّ ناصيف على تطويره بإيقاع ثابت، بعيد عن الاستسهال وعن الانجرار وراء موجات موسمية قد تمنحه انتشاراً سريعاً لكن قصير الأمد.
وبالتزامن مع طرح “بكّيتني يا ليل”، قدّم زيتون خلال ظهوره الأخير في حلقة تلفزيونية خاصة أغنية “يا دنيا”، في أداء مباشر عكس قدرته على التحكم بصوته وتقديمه بأعلى مستويات الإتقان حتى خارج الاستوديو.
وفي الحلقة نفسها، اختار زيتون للمرة الأولى، أن يفتح نافذة صغيرة على تفاصيل من بداياته، من دون أن يحوّل الأمر إلى مادة درامية أو محاولة لاستدرار التعاطف. فقد روى كيف باعت والدته بعضاً من ذهبها في فترة “ستار أكاديمي” كي تشتري له ملابس أنيقة تليق بظهوره الفني، وكيف أن هذا التفصيل لا يزال يشكّل نقطة مؤثرة في ذاكرته ومسيرته. كما تحدّث بصدق عن اشتياقه الكبير لوالده الراحل، من دون مبالغة أو استعراض، وعن أثر هذا الغياب في تشكيل شخصيته وانضباطه.
اللافت في هذه الروايات ليس مضمونها الإنساني فقط، بل الطريقة التي اختار ناصيف من خلالها مشاركتها، حيث ابتعد عن الخطابات العاطفية المتضخمة التي يعتمدها كثيرون. وكان واضحاً، أنه لم يكن يرغب سابقاً بالكشف عن تلك التفاصيل حتى لا تُفسَّر كاستعطاف للجمهور أو كجزء من التسويق الشخصي.
هذه المقاربة وحدها كفيلة بتعزيز الصورة التي يملكها جمهوره عنه: فنان يحترم مهنته بما يكفي ليترك ماضيه الخاص في مكانه ولا يحوّله إلى “قصة جاهزة” لزيادة المتابعة أو التفاعل.
وفي العمق، تعكس هذه الشفافية المتزنة فلسفة ناصيف المهنية. فمنذ تخرجّه من “ستار أكاديمي”، ثم في مرحلة الانتشار العربي الواسع، حافظ على منهج واضح: العمل أولاً، الظهور الإعلامي المدروس ثانياً، والتفاصيل الشخصية أخيراً. حيث أن ناصيف يفضّل أن يُعرَف بصوته وبأدائه وبإصداراته، لا بسرديات حياته الخاصة، وقد ظهر ذلك جلياً بعد زواجه من الممثلة اللبنانية دانييلا رحمة، حيث رفض التحدث للاعلام عن أي تفصيل أو مشاركة مراحل زواجهما حفاظا منه على خصوصية علاقته معها.
قدرته على فصل حياته الشخصية عن حضوره الفني أسهم في ترسيخ صورته المهنية، فهذا الخيار وإن بدا بسيطاً يتطلّب وعياً كبيراً وإدارة دقيقة، فأي انحدار قد يظهره بصورة الفنان الباحث عن الشهرة الرخيصة والقصيرة المدى، لكن ما فعله ناصيف أكسبه احترام شريحة واسعة من الجمهور الذي صار يرى فيه فناناً يقدّم شخصية لا تستغل حياتها الخاصة كمادة للترويج.
هذا الانضباط يظهر أيضاً في طريقة تعامله مع فريق عمله، مع الصحافة، ومع الجمهور. فالفنان المعروف بشخصيته الهادئة والمتزنة، يُشاد به كمحترف يحترم الوقت ويهتم بأدق التفاصيل في التحضير وإنتاج الأغاني والتحضير للحفلات. وحتى في لحظات الضغط، يحافظ على خطاب رصين لا ينجرّ إلى الخلافات ولا إلى العناوين الانفعالية التي تبني شهرة قصيرة لكنها تهدم احتراماً طويلاً.
ولا يمكن تجاهل أن هذا السلوك المتوازن شكّل أساساً لشعبية ناصيف الواسعة. فهي شعبية لا تعتمد على تفاعل يومي ولا على محتوى مثير للفضول، بل على ثقة الجمهور بأن كل ما يقدّمه يحمل قيمة فنية حقيقية. ومع كل أغنية جديدة، كما في “بكّيتني يا ليل” و”يا دنيا”، يعيد التأكيد على جرأته في تطوير صوته وتجديد أدواته، دون التخلي عن هويته الموسيقية التي أحبّه الناس من خلالها.
في النهاية، قوة ناصيف زيتون ليست في صوته القوي فحسب، ولا في الأرقام التي يحققها عند كل إصدار. قوته في خياراته، في صبره، وفي قدرته على رسم خط مهني طويل الأمد بعيد عن الصخب. هو فنان أدرك أن النجاح الحقيقي يقوم على الاستمرارية والاحترام والاتقان. وهذا ما يجعله اليوم واحداً من أكثر الفنانين رسوخاً في المشهد العربي.
