زغلول الدامور، الاسم الذي اقترن بفن الزجل اللبناني على مدى عقود، يُعد من أبرز رواد هذا الفن الشعبي وأحد أعمدته التي لا تُنسى. وُلد الشاعر جوزيف الهاشم، المعروف بلقب زغلول الدامور، في بلدة الدامور، ليبدأ مسيرته في عالم الزجل في سن مبكرة. أسس جوقته الخاصة، وقدم عروضًا زجلية جذبت الجمهور اللبناني والمغتربين على حد سواء، حتى لُقّب بـ”سندباد الزجل” و”أمير الشعر”. أرسى زغلول قواعد الزجل اللبناني على المسرح، وأبدع في تطويره ونشره داخل وخارج البلاد، تاركًا إرثًا لا يزال ينبض بروح التراث اللبناني الأصيل.
نشأته:
جوزيف الهاشم، الذي عُرف بلقب “زغلول الدامور”، وُلد عام 1925 في بلدة البوشرية التابعة لقضاء المتن في جبل لبنان. امتدت جذوره العائلية إلى بلدة الدامور الساحلية، ما أكسبه لقبه الذي سيصبح لاحقًا رمزًا بارزًا في عالم الزجل اللبناني. نشأ جوزيف في كنف عائلة متمسكة بالتراث، إذ كان والده مخايل الهاشم رجلاً متشبثًا بالتقاليد، بينما دعمت والدته، سيسيليا جرجورة العيراني، التي تعود أصولها إلى بلدة عاريا، مواهبه منذ الصغر.
كبر جوزيف وسط أجواء مشبعة بالشعر والفن، متأثرًا بأفراد أسرته ومعلميه. كانت جدته، على الرغم من أميتها، شاعرة بالفطرة، وقد ألهمته ومهدت له طريق الزجل.
دراسته:
التحقزغلول الداموربمدرسة جديدة المتن الكبرى، حيث أدارها الشاعر الخوري يوسف عون، الذي ترك أثرًا كبيرًا على بيئة المدرسة الثقافية. تفوق زغلول أكاديميًا، لكن شغفه الحقيقي كان الشعر الشعبي. منذ أن كان في التاسعة من عمره، كان يقضي أوقات الاستراحة تحت ظلال الأشجار، يحمل معه ورقة وقلمًا، ويسطر أبياتًا شعرية تعبّر عن عمق إحساسه وفطنته. موهبته هذه لم تمر دون أن يلاحظها المحيطون به؛ فقد أذهلت أساتذته وزملاءه، مما دفعهم لمنحه لقب “زغلول الدامور”، إشارة إلى براعته الشعرية وارتباطه بجذوره العائلية.
حياته الشخصية:
ارتبطزغلول الداموربالزواج في سن مبكرة، وكان نموذجًا للزوج المحب والأب العطوف والجد المخلص. عرف عنه اهتمامه الكبير بأسرته وتفانيه في رعايتها، كما تميز بتواضعه وأسلوبه الودود الذي جعله محبوبًا ومقربًا من الناس.
بدايته في عالم الزجل:
زغلول الدامور، أو جوزيف الهاشم، كان منذ طفولته مرتبطًا بتراث الزجل الذي انتقل إليه من جدته لوالده، نمنم سميا الهاشم، الشاعرة الأمية التي أبدعت في نظم الشعر والغناء رغم عدم إلمامها بالقراءة والكتابة. كانت البيئة المحيطة به، المليئة بألحان الزجل وأهازيجه، بمثابة التربة الخصبة التي احتضنت موهبته الفذة. جدته، برغم أميتها، امتلكت حسًا فنيًا عاليًا وتقديرًا للأوزان الشعرية، وكانت أول من دعم خطواته الأولى في هذا العالم الفريد.
في صيف عام 1936، عندما كان جوزيف في العاشرة من عمره، حدثت نقطة التحول في مسيرته الزجلية. خلال عطلة عائلية في ضهر المغارة بالشوف، اصطحبته جدته إلى أمسية زجلية في بلدة الدبية المجاورة، حيث اجتمع كبار شعراء الزجل مثل رشيد ضاهر ورامز البستاني. وسط الحضور، وبتشجيع من جدته، تجرأ الطفل جوزيف على الصعود إلى المسرح. دون تردد، شارك في الرديات ونجح في جذب انتباه الجميع، بما فيهم الشاعر رامز البستاني، الذي أُعجب بموهبته ورأى فيه نجمًا مستقبليًا.
لم تكن هذه الأمسية مجرد تجربة عابرة؛ لقد كانت بداية مشوار حافل، حيث أصبح الزغلول لاحقًا رفيقًا لرامز البستاني في العديد من الحفلات، مما ساعده على صقل مهاراته وتعزيز حضوره على الساحة الشعرية. موهبة زغلول في نظم الشعر ظهرت منذ سن التاسعة، لكنها لم يتتصر على كونها مجرد موهبة طفولية، إذ برز فيما بعد كنجم كبير في لبنان والوطن العربي. تألق بشكل خاص حين كوّن ثنائيًا استثنائيًا مع الشاعر زين شعيب، ليترك بصمة لا تُمحى في عالم الزجل اللبناني، حيث باتت المنافسات بينهما حديث الناس ومحور اهتمام عشاق هذا الفن.
إنجازاته:
زغلول الدامور، أحد أعلام الزجل اللبناني، أسس جوقته الأولى عام 1944، ليقدم عروضًا زجلية وصلت إلى جميع أنحاء لبنان، حيث غنى في كل قرية ومدينة. لم يتوقف نشاطه على الوطن فحسب، بل تعداه إلى المغتربات، إذ قام بأكثر من 120 رحلة خارجية، ناشرًا الزجل اللبناني بين الجاليات في مختلف البلدان. كانت جوقته من الفرق الزجلية الأكثر استمرارية وتأثيرًا، وخرّجت شعراء بارزين مثل خليل روكز وزين شعيب، الذين أسس معهم ثنائيًا زجليًا مميزًا ساهم في تطوير إيقاع وأسلوب الزجل. تميز زغلول بأنه أول من قدم الزجل على شاشة التلفزيون بين الستينيات والسبعينيات، وأرسى قواعد المسرح الزجلي، مما جعل حفلاته غنية بالإبداع والموسيقى. واحدة من محطاته الزجلية البارزة كانت في بلدة بيت ميري عام 1971، حيث خاض مبارزة زجلية مع الشاعر موسى زغيب، رغم حزنه العميق على فقدان شقيقه الذي دفنه قبل الحفل بساعات قليلة.
سندباد الزجل اللبناني:
عرفزغلول الداموربلقب “سندباد الزجل اللبناني” لكثرة أسفاره حول العالم، إذ حمل فن الزجل إلى المغتربات منذ عام 1953، حيث كانت أولى رحلاته إلى البرازيل. أمضى أربع سنوات يجول بين الجاليات اللبنانية، ناشرًا الزجل اللبناني في بلدان مثل الأرجنتين وكندا والولايات المتحدة وأفريقيا وعدة دول عربية. في كل محطة، جذبت حفلاته جماهير واسعة من المغتربين، الذين وجدوا في شعره صلة وصل بوطنهم الأم. ومن أبرز قصائده التي لا تزال حاضرة في الذاكرة قصيدة “اعذريني يا حروف الأبجدية”، التي ألقاها في مناسبة خاصة رغم ظروفه الشخصية الصعبة، مؤكدًا من خلالها التزامه بالشعر وبالجمهور الذي انتظره في كل مكان.
أبرز أعماله وجوائزه:
تركزغلول الداموربصمة عميقة في عالم الزجل، حيث أثرى المكتبة الزجلية بعدة مؤلفات بارزة، منها “بين القلوب” عام 1948، و”المرج الأخضر” عام 1952، و”خمسون سنة مع الشعر الزجلي” الذي صدر عام 1995، متناولًا مسيرته وتجربته الفنية. إلى جانب تأليفه للكتب، أسس مع زميله زين شعيب مجلة “المسرح”، التي شكّلت منبرًا لنشر الشعر الزجلي واستمرت لسنوات طويلة. كما تحتفظ جامعة الروح القدس بأرشيفه لتدريسه ضمن مناهجها، تكريمًا لجهوده في الحفاظ على تراث الزجل ونشره للأجيال القادمة.
حاز زغلول الدامور على عدة أوسمة وشهادات تقدير، منها وسام الاستحقاق اللبناني منحه إياه الرئيس سليمان فرنجيه عام 1974، ووسام الأرز الوطني من رتبة فارس عام 1997 من الرئيس إلياس الهراوي. كما تم تكريمه بوسام الاستحقاق اللبناني الفضي بعد وفاته في عام 2018، من قبل الرئيس ميشال عون، تقديرًا لمسيرته وإسهاماته الفنية في خدمة التراث اللبناني.
علاقته بالجمهور:
تمتعزغلول الداموربعلاقة استثنائية مع المغتربين اللبنانيين، حيث لم يكن مجرد شاعر، بل كان صديقًا يعرف أسماءهم وأصواتهم، ويشعر بهمومهم عن قرب. حظي بمحبة واسعة من الجماهير التي منحته ألقابًا مثل “أمير الشعر” و”سيد المنبر”، إلا أن تواضعه الدائم دفعه للاعتراف بأن حبه ونجاحه ينبعان من قلوب جمهوره الوفي.
وفاته:
توفي الشاعر جوزيف الهاشم، عن عمر يناهز 93 عامًا، بعد معاناة طويلة مع المرض. ونعته الوكالة الوطنية للإعلام في لبنان، واصفةً إياه بأنه من أبرز رموز الزجل اللبناني وأشهر شعرائه، تاركاً خلفه إرثاً شعرياً خالداً يعبر عن وجدان الشعب اللبناني وتراثه.