الاقتصاد المصري
في وقت يتخبط فيه الاقتصاد العالمي تحت وطأة الاضطرابات الجيوسياسية، والتقلبات النقدية، وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، تبرز مصر كحالة استثنائية بين الاقتصادات الناشئة، وفقًا لتقارير حديثة من مؤسسات مالية دولية مرموقة. فقد وصف كل من معهد التمويل الدولي ومؤسسة أوكسفورد إيكونوميكس أداء الاقتصاد المصري بـ”المرن”، مشيدَين بقدرته على امتصاص الصدمات، وتحقيق استقرار نسبي رغم التحديات الداخلية والخارجية.
غير أن هذا الإطراء لا يُخفي الحقيقة الأهم: الإصلاحات الجذرية لا تزال ضرورية لتثبيت هذه المكاسب وضمان تحولها إلى نمو حقيقي ومستدام يشعر به المواطن قبل المستثمر.
إشادات دولية بالثقة في الاقتصاد المصري
جاءت أبرز الإشارات الإيجابية من معهد التمويل الدولي، الذي لفت إلى أن السوق المصرية استطاعت الصمود أمام التوترات الإقليمية، بما فيها التصعيد في منطقة الشرق الأوسط، دون أن تتأثر تدفقات المحافظ الاستثمارية بشكل كبير.
وسجلت مصر تراجعًا في علاوة المخاطر على سنداتها السيادية، لتبلغ أدنى مستوى لها خلال خمس سنوات، ما يعكس تزايد ثقة المستثمرين بقدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها المالية.
أكسفورد إيكونوميكس: مصر مستفيدة من ضعف الدولار
من جهتها، اعتبرت أوكسفورد إيكونوميكس أن مصر من أبرز المستفيدين بين الأسواق الناشئة من تراجع الدولار الأميركي، الذي فقد أكثر من 9 بالمئة من قيمته منذ بداية العام، في أكبر خسارة نصف سنوية منذ عام 1973. وأوضحت المؤسسة أن كل تراجع بنسبة 1 بالمئة في الدولار يرفع نمو الأسواق الناشئة بنسبة 0.3 بالمئة، بينما يُسهم انخفاضه بنسبة 10 بالمئة في تحفيز التجارة العالمية بنسبة 1 بالمئة، وهي مؤشرات تصب في مصلحة الاقتصاد المصري الذي يعتمد في جزء كبير من نموه على التجارة والاستثمارات الخارجية.
سياسات نقدية متوازنة وسط الضغوط العالمية
في تعليق له على أداء الاقتصاد المصري، أشار غابريال ستيرن، رئيس أبحاث الأسواق الناشئة في “أوكسفورد إيكونوميكس”، خلال حديثه الى سكاي نيوزعربية إلى أن تراجع الدولار يمنح مصر متنفسًا ماليًا مهمًا، لا سيما في ما يخص الديون الخارجية المقومة بالعملة الأميركية.
وأشاد بمرونة السياسة النقدية التي يتبعها البنك المركزي المصري، خاصة في ما يتعلق بتعويم سعر الصرف، مؤكدًا أن الجنيه بات أداة فعالة في امتصاص الصدمات بدلًا من أن يكون عبئًا على الاقتصاد.
وأوضح ستيرن أن البنك المركزي ينجح في اتباع سياسة متوازنة تقوم على خفض تدريجي لأسعار الفائدة، مع الحفاظ على قدر من التشدد لكبح جماح التضخم، ما يخلق بيئة مستقرة تدعم جذب الاستثمار وتحفز النشاط الاقتصادي.
الدولار الأميركي والاقتصادات الناشئة
تحديات الداخل: إصلاحات هيكلية لم تُنجز بعد
رغم هذه الإشادات، يرى محللون أن الواقع الداخلي لا يزال يعاني من اختلالات هيكلية مزمنة، قد تُقوض فرص الاستفادة من المناخ الدولي المواتي ما لم تُعالج بقرارات حاسمة. وفي هذا السياق، يؤكد محمد كمال، عضو مجلس إدارة “إيليت” للاستشارات المالية، خلال حديثه الى “برنامج بزنس مع لبنى” أن الاقتصاد المصري لا يزال يعاني من الاعتماد المفرط على الواردات، خصوصًا في السلع الأساسية مثل القمح ومشتقات البترول، ما يفاقم الطلب على العملة الصعبة.
وأشار كمال إلى أن التوترات الأمنية في البحر الأحمر أثرت على إيرادات قناة السويس، أحد أهم مصادر النقد الأجنبي، مضيفًا أن هذا العامل شكّل ضغطًا مزدوجًا على ميزان المدفوعات وسعر صرف الجنيه. ورغم جهود البنك المركزي في ضبط السوق وبناء احتياطيات من النقد الأجنبي، فإن هذه الضغوط تكشف الحاجة إلى حلول جذرية لا تعتمد فقط على المعالجات النقدية، بل تتطلب إصلاحًا هيكليًا في منظومة الاقتصاد الكلي.
التضخم والسياسات المالية: لعبة التوازن الصعبة
التضخم لا يزال أحد أكثر الملفات تعقيدًا في المشهد الاقتصادي المصري. فالموجات التضخمية التي بدأت مع جائحة كورونا وتفاقمت بفعل الحرب الروسية الأوكرانية، لا تزال تلقي بظلالها الثقيلة على الأسعار، وسط ضغوط خارجية مستمرة من أسواق الغذاء والطاقة.
ويشير كمال إلى أن استمرار ارتفاع أسعار المحروقات قد يعيد الضغط على الأسواق رغم خفض الفائدة، داعيًا إلى سياسات دقيقة في إدارة منظومة الدعم وتحرير أسعار السلع. ويرى أن التحدي الأكبر يكمن في تنسيق السياسات النقدية والمالية بشكل فعال، بحيث لا يضحي صانع القرار بالنمو الاقتصادي مقابل خفض العجز، ولا يضرب الاستقرار النقدي تحت ضغط المطالب الاجتماعية.
كمال: مرونة المركزي المصري حصّنت الاقتصاد من الصدمات
برنامج الطروحات: الاختبار الحقيقي لجدية الإصلاح
من أبرز الانتقادات الموجهة إلى الحكومة المصرية ما يتعلق ببطء تنفيذ برنامج الطروحات الحكومية، الذي يُعد ركيزة أساسية في برنامج الإصلاح المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي. ويرى كمال أن التأخير في تنفيذ هذا البرنامج يرسل إشارات سلبية إلى الأسواق، رغم أن التجارب الأخيرة لبعض الطروحات الخاصة أظهرت وجود شهية استثمارية حقيقية.
وأضاف أن وقف الشهادات المصرفية ذات العائد المرتفع ضخ سيولة كبيرة في السوق، تبحث الآن عن قنوات استثمارية آمنة. وتُعد الطروحات الحكومية فرصة واعدة في هذا الإطار، إذا ما طُرحت بشفافية وتسعير عادل، ما يمكن أن يسهم في تعزيز ثقة المستثمر المحلي والأجنبي على حد سواء.
إلى جانب دعم الخزانة العامة، فإن تسريع وتيرة الطروحات يعزز مناخ التنافسية، ويبعث برسالة إلى المجتمع الدولي بأن الحكومة جادة في خفض دور الدولة الاقتصادي لصالح القطاع الخاص، وهو ما يشكل محورًا أساسيًا في أي نموذج إصلاحي مستدام.
فرص متاحة في مناخ دولي داعم
المفارقة أن المناخ الدولي اليوم يبدو أكثر دعمًا من أي وقت مضى للأسواق الناشئة، مع تراجع الدولار وتراجع حدة التشديد النقدي عالميًا. وتستطيع مصر الاستفادة من هذه اللحظة عبر تسريع الإصلاحات، خصوصًا في مجالات دعم الطاقة، وتحرير السوق، وتعزيز الإنتاج المحلي في قطاعات حيوية كالصناعة والزراعة والسياحة.
كما أن الانضمام إلى مجموعة “بريكس” قد يفتح أبواب تمويل جديدة، ويقلص من الاعتماد على المؤسسات الغربية التقليدية، مما يتيح لصناع القرار هامش تحرك أوسع في إدارة الاقتصاد الوطني.
ما بين التطمينات الدولية والرهانات الداخلية
تعيش مصر لحظة دقيقة تختلط فيها إشارات الثقة الخارجية بتحديات الداخل الملحة. فرغم الإشادة الدولية بمرونة الاقتصاد وقدرته على الصمود، فإن هذه الإشادة تظل غير مكتملة ما لم تترجم إلى إصلاحات ملموسة على الأرض. المواطن لا ينتظر تقارير المؤسسات الدولية، بل يترقب تحسنًا حقيقيًا في قدرته الشرائية، واستقرارًا في الأسعار، وفرص عمل تليق بطموحاته.
ومع تراجع الدولار، وتوافر بدائل تمويلية غير تقليدية، تُتاح أمام مصر نافذة استراتيجية لتحويل “المرونة” إلى “نمو”، وتحويل التفاؤل الدولي إلى واقع اقتصادي يُقرأ في مؤشرات الناتج، ويُلمس في حياة الناس.
ضعف الدولار الأميركي ينقذ الاقتصادات الناشئة