تُلقي عديد من العوامل والتطورات الاقتصادية المتزامنة بظلالٍ وخيمة على الأسهم الأميركية، بدءًا من اتجاهات السياسة النقدية المتبعة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي ومصير سعر الفائدة، ووصولاً إلى الاضطرابات المصرفية الأخيرة، وكذلك أزمة سقف الديون.
تُحرك تلك العوامل مخاطر قصيرة الأجل بسوق الأسهم، وبما ينعكس على اتجاهات المستثمرين وفي ضوء المؤشرات الاقتصادية المختلفة الراهنة، في مرحلة تلف فيها الأسواق حالة من عدم اليقين.
وفي ظل ذلك المشهد، تطرح مجموعة من الأسئلة نفسها؛ أهمها ما إن كانت تلك التراجعات التي تشهدها الأسهم الأميركية “مؤقتة” أم هي مستمرة لأمد أطول؟ وإلى أي مدى تؤثر حالات التعثر بالنسبة لبنوك إقليمية في الولايات المتحدة فضلاً عن أزمة سقف الدين على الأسهم على المدى القصير؟ وما هي العوامل التي تتوقف عليها العودة لارتفاع الأسهم من جديد؟
يشير تقرير نشرته صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، إلى أنه إلى جانب الشكوك بشأن تحركات مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي القادمة، فإن الانهيارات المصرفية (أزمة البنوك التي بدأت منذ مارس الماضي وأثارت مخاوف واسعة بالأسواق)، إلى جانب المواجهة السياسية التي تلوح في الأفق حول سقف الديون، جميعها عوامل مثيرة للقلق، فيما يخص المخاطر قصيرة الأجل بالسوق.
ويضيف التقرير: “ربما يجب أن تظهر المخاطر طويلة الأجل على التوقعات النسبية للأسهم الأميركية مقارنة بالأسواق الأخرى بشكل أكبر على رادار المستثمرين”.
وينقل التقرير عن كبيرة مسؤولي الاستثمار في شركة إدارة الاستثمارات الأميركية بريدج ووتر، كارين كارنيول تامبور، قولها في الاجتماع السنوي لمعهد ميلكن في لوس أنجلوس هذا الأسبوع:
- إن التقييمات في الولايات المتحدة أسوأ بكثير من أي مكان آخر.
- رسمت كارين صورة للأسوق الأميركية، باعتبارها كانت “المكان المناسب ولكن ليس بعد الآن”.
- قالت إنه عادة عندما تكون هناك شركات رابحة لفترة طويلة، يتم تسعير ذلك.. لقد كانت التكنولوجيا الأميركية على وجه الخصوص تربح نوعًا ما كل شيء، والآن يتم تسعيرها بالكامل.
- تجادل كارنيول تامبور بأنه “من الصعب أن تكون هناك هيمنة أميركية في المحافظ الاستثمارية أكثر مما هو موجود بالفعل.
ويشير التقرير إلى البيانات الصادرة عن Absolute Strategy Research، والتي تكشف عن أن “الأسهم الأميركية تسيطر حالياً على ما يقل قليلاً عن نصف رسملة سوق الأسهم العالمية، ارتفاعاً من حوالي الثلث في العام 2010”.
وفي الأشهر القليلة الماضية، تفوقت أسواق الأسهم الأخرى على الولايات المتحدة. فقد ارتفع مؤشر S&P 500 بنسبة 8 بالمئة في ستة أشهر، لكن مؤشر FTSE Eurofirst 300 ارتفع بنسبة 25 بالمئة تقريباً بالدولار وحتى الأسهم الممتازة اليابانية بنسبة 16 بالمئة.
ومع ذلك، لا تزال التقييمات الأميركية قوية؛ ذلك أن أحد المعايير “طويلة الأجل” هو نسبة السعر إلى الأرباح المعدلة دورياً. ويقارن هذا المقياس الأسعار مع متوسط الأرباح للعقد السابق، وغالباً ما يستشهد به المستثمرون الذين يركزون على المدى الطويل كمقياس رئيسي.
تراجعات مؤقتة أم مستمرة
يقول أستاذ الاقتصاد في Kogod School of Business بالولايات المتحدة، جيفري هاريس، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: تاريخياً، كان الاقتصاد الأميركي (وسوق الأسهم بدوره) مرناً على مدى فترات طويلة، موضحاً أنه في العام الحالي، فإن أسواق الولايات المتحدة في الواقع أعلى مما كانت عليه في العام 2022 حتى عندما أظهر الأسبوع الماضي ضعفاً شديداً.
ويضيف: “(..) يبحث المستثمرون عن الأسهم الأميركية كاستثمارات طويلة الأجل، وتستثمر صناديق التقاعد وصناديق الاستثمار وشركات التأمين على المدى الطويل نيابة عن الأفراد، على سبيل المثال”.
ويرى أن التراجعات التي تشدها السوق هي تراجعات مؤقتة، ولا نعرف أبداً متى ستتحول السوق، متحدثاً عن عددٍ من العوامل المؤثرة في ذلك الاتجاهات:
- هناك بعض الدلائل على أن زيادات سعر الفائدة الفيدرالية (التي تهدف إلى القضاء على التضخم) ستقضي على التوظيف، وبالتأكيد دفعت هذه الزيادات بعض البنوك إلى الفشل.
- ستُترجم المعدلات المتزايدة بالضرورة إلى معدلات رهن عقاري أعلى (ومعدلات إعادة تعيين أعلى للرهون العقارية المتغيرة الحالية)، لذلك يواجه المستهلكون والشركات الأميركية على حد سواء الآن تكاليف اقتراض أعلى مما سيؤثر على النمو الاقتصادي في المستقبل.
ويتابع: لكنني على ثقة من أن سوق الأسهم ستنتعش على الأقل في المدى المتوسط في أسوأ الأحوال خلال السنوات القليلة القادمة. ومع ذلك، يجب أن نلاحظ أن المعدلات المرتفعة من المحتمل أن تُترجم إلى نمو أقل حتى نتوقع عوائد أقل من المتوسط (أقل من 7 بالمئة) في سوق الأسهم في السنوات القليلة المقبلة.
وحول تأثير المخاطر الحالية (فشل البنوك وأزمة الديون تحديداً) على التوقعات المستقبلية للأسهم الأميركية، يوضح هاريس، أن:
- حالات فشل البنوك الأخيرة تتعلق بالزيادة في أسعار الفائدة، والتي أجبرت بعض البنوك على بيع أصول الدخل الثابت بخسارة الأصول التي كانت تعتزم الاحتفاظ بها حتى تاريخ الاستحقاق.
- لا يزال هناك بعض الخطر من أن المؤسسات المالية الأخرى سوف تستسلم لهذه المخاطر نفسها.
- يبدو أن مؤسسة التأمين الفيدرالي (FDIC) وبنك الاحتياطي الفيدرالي (FDIC) يراقبان القطاع عن كثب ويعملان على إيجاد حلول.
- تدفع حالات فشل البنوك هذه إلى تقويض الثقة في الاقتصاد، ويكشف مسح ثقة المستهلك في ميتشغان عن تشاؤم واسع الانتشار حالياً. لكن النظام المصرفي ككل يبدو قوياً.
أزمة الديون
ويضيف: تؤثر أزمة الديون الوشيكة أيضًا على الاقتصاد، لكن هذا سياسي إلى حد كبير، لذا إذا تمكن السياسيون من حل خلافاتهم، فلن نرى تأثيراً يُذكر من هذا.
ويلفت إلى أنه “في كل مرة يتم فيها رفع سقف الديون تلاحظ الأسواق ذلك.. ومثلما هو الحال في الشركات أو المنازل، فإن زيادة الديون تشير إلى مخاطر أكبر، لذا فإن زيادة المخاطر تترجم أيضاً إلى توقعات الأسهم الأميركية.. يتم تداول الأسهم المحفوفة بالمخاطر بسعر مخفض، لذا فإن التوقعات الخاصة بالدولة ذات المخاطر العالية تشير إلى توقعات أقل من التاريخية لسوق الأسهم أيضاً.
عوامل مؤثرة على اتجاهات المستثمرين
ويُبرز تقرير فاينانشال تايمز المشار إليه، في سياق التحديات التي تجابه سوق الأسهم الأميركية، عدداً من الوجهات المؤثرة في الاتجاهات الاستثمارية المرتبطة بسوق الأميركية، من بينها “الدولار الأميركي”، إذ تعتبر العملة الأميركية ملاذ دعم كبير لجذب الأموال من الخارج إلى الأسهم والسندات الأميركية.
بين مارس 2008 وسبتمبر 2022، ارتفع الدولار بنسبة 60 بالمئة مقابل سلة من نظرائه، وارتفع حتى خلال الأزمة المالية العالمية التي سببتها الولايات المتحدة. ومع ذلك، فقد انخفض هذا العام بنسبة 4 بالمئة منذ أن ضرب الاضطراب أول مرة البنوك الإقليمية الأميركية في مارس.
ومن بين العوامل كذلك “عدم الرغبة في استثمار المزيد من الأموال للعمل في الولايات المتحدة” لصالح إيجاد سوق كبيرة أخرى بها إمكانات طويلة الأجل.
ويشير التقرير هنا إلى منطقة اليورو التي “من المؤكد أنها تمر بلحظة اقتصاد مزدهر بشكل غير متوقع، في ضوء الارتياح من أن حرب روسيا مع أوكرانيا لا تضربها أكثر من غيرها”. ومع ذلك، فإن تحويل الأموال من الولايات المتحدة على المدى الطويل “يعني أن يكون المستثمر واثقاً من أن العوائد في منطقة اليورو سوف تتفوق بثبات على تلك الموجودة في الولايات المتحدة”.
هناك أيضًا آسيا، وبداخل الصين، حيث يستمر الانتعاش في أسواق الأسهم هذه، ولكن مع نقص ملحوظ في الحماس من جانب المستثمرين الأميركيين على وجه الخصوص مع تفاقم التوترات الجيوسياسية.
الإخفاقات المصرفية وأزمة الديون
من جانبه، يقول المدير التنفيذي لشركة فيرجن إنترناشيونال ماركتس vi markets، أحمد معطي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن تراجع أسواق الأسهم شيء طبيعي في ظل الأوضاع الاقتصادية، وهو يمثل “تراجعاً مؤقتاً” فيما يخص الأسهم الأميركية.
ويضيف: “الولايات المتحدة الأميركية هي أكبر اقتصاد في العالم، وأكبر اقتصاد يدعم الاستثمار، وبالتالي فإن أي تراجعات متعارف عليها تكون مجرد فرص جديدة للشراء فيما بعد، وبالتالي فإن السؤال هو: متى ترتفع الأسهم من جديد، وما العوامل المؤثرة في ذلك؟”.
يجيب معطي: “في تقديري الشخصي، فإن التوقيت المناسب لدخول الأسهم الأميركية دورة جديدة من الارتفاع وانتهاء التراجعات الراهنة يتعلق بانتهاء دورة تشديد السياسة النقدية؛ فعندما يتم البدء في خفض الفائدة وليس تثبيتها، فلقد أصبح من المتوقع أن يثبت الفيدرالي الفائدة في اجتماعه المقبل أو يرفعها وفق البيانات الاقتصادية، قبل أن يدخل مرحلة تخفيض الفائدة”.
ويتحدث المدير التنفيذي لشركة فيرجن إنترناشيونال ماركتس vi markets، في معرض حديثه مع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” عن تبعات أزمة الديون، على سوق الأسهم الأميركية وانعكاساتها، موضحاً أنه “لو تأكدت الأزمة بالفعل في حال عدم التوافق على حزمة رفع سقف الدين، ستكون هناك مشكلة حقيقية، تلقي بظلالها على تراجعات كبيرة للمؤشرات الأميركية الثلاثة بتراجعات محتملة لا تقل عن 10 بالمئة، لكن هذا غير متوقع بشكل كبير، على أساس أن الأزمة الحالية تمثل مناورات بين الحزبين، والمسألة مرتبطة بملفات سياسية بحتة.
أما فيما يتعلق بأثر “الانهيارات المصرفية”، فيلفت إلى تصريحات الفيدرالي الأميركي الأخيرة التي أكد فيها قوة ومتانة الجهاز المصرفي، ولفت إلى سياسة الاندماج والاستحواذ، والممثلة في استحواذ البنوك الكبرى على البنوك الصغيرة المتوسطة مثلما حدث مع سيلكون فالي وفيرست ريبابليك بنك.
ويضيف معطي: “وبناءً على تلك الرسائل، فإن المؤشرات الراهنة تشير إلى بدء تراجع مخاوف المستثمرين من أزمة المصارف؛ على أساس أن المسألة صارت مرتبطة بسيناريو معروف فيما يتعلق بتدخل البنوك الكبرى للاستحواذ على البنوك المتعثرة، وبالتالي استثمارات المودعين في أمان، بينما الخوف الوحيد يتمثل في تعرض أي من البنوك العشرة الكبيرة إلى أي من حالات التعثر، وهو ما يلقي بظلال وخيمة على الأسهم الأميركية وثقة المتعاملين”.
الخبير الاقتصادي وخبير المخاطر المالية من الولايات المتحدة، محي الدين قصار، يقول في تصريح لـ “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “أعتقد بأن البورصة الأميركية ستمر بمرحلة هبوط (لا يعني بالضرورة سقوط)، لتبدأ التعافي في آخر سبتمبر بعد بعض الحركات الاهتزازية القوية”.
ويشير إلى أن تلك التوقعات “تعتمد على استمرار الوضع الحالي”، لكنه يلفت في الوقت نفسه إلى أن “تغييرات السياسية المالية للفدرالية قد تغير هذا”.
ويضيف: “بالنسبة للأسهم الأميركية بالعموم، فإنه طالما أن الفيدرالي يشتري الأصول فنحن سنرى ظاهرة في البورصة مثيلة للوضع في العام 2011 (عندما كانت الأسواق تتعرض لضغط شديد بسبب أزمة الديون في منطقة اليورو وعواقب الانهيار المالي العالمي).