الاقتصاد الروسي، الذي طالما كان مرادفاً للقوة الجيوسياسية والقدرات الإنتاجية الضخمة، يمر بمرحلة شديدة التعقيد في ظل التطورات المحلية والدولية الراهنة.
في السنوات الأخيرة، وجد هذا الاقتصاد نفسه وسط تحديات متعددة الأبعاد، تتراوح بين العقوبات الغربية الصارمة وتكاليف الحرب المستمرة في أوكرانيا، ما ألقى بظلاله على القطاعات المختلفة وعلى السياسات الاقتصادية الداخلية. ومع ذلك، يظل المشهد العام متشابكاً، يحمل في طياته مظاهر للصمود وأخرى لانكشاف مواطن الضعف.
ما يميز الاقتصاد الروسي هو اعتماده المتزايد على قطاع الدفاع حيث يتم توجيه موارد كبيرة نحو ذلك القطاع، لكن على حساب قطاعات مدنية أخرى.
هذه الآلية وإن حافظت على حركة عجلة الإنتاج في بعض الجوانب، إلا أنها أثارت تساؤلات جدية حول الاستدامة طويلة الأجل وتأثيراتها على مستوى معيشة المواطنين. إضافة إلى ذلك، فإن الضغوط التضخمية وارتفاع أسعار الفائدة تُعد عوائق رئيسية أمام الاستثمار والنمو، مما يعمق حالة الضبابية التي تحيط بالمستقبل القريب.
في هذا السياق، يواجه الاقتصاد الروسي مفترق طرق حاسم، بين إمكانية إعادة التوازن الداخلي لمواجهة التحديات المتصاعدة، وبين احتمال استمرار النزيف الاقتصادي بفعل التوترات الجيوسياسية والتراجع في عائدات الطاقة.
مرونة خادعة
في هذا السياق، يشير تقرير لـ “بيزنس إنسايدر” اطلع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” عليه، إلى أن:
- العقوبات الغربية وتكاليف ثلاث سنوات من الحرب في أوكرانيا لم تتمكن من الحد من زخم النمو في روسيا.
- من المتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة 4 بالمئة هذا العام.
- لكن هذه الصورة عن المرونة “خادعة”!
يستدل التقرير بمقال للباحثة في مركز كارنيغي روسيا وأوراسيا ألكسندرا بروكوبينكو في مجلة كارنيغي بوليتيكا هذا الأسبوع، قالت فيه: “خلال العامين الماضيين، كان الاقتصاد الروسي يعمل مثل عداء الماراثون الذي يعتمد على المنشطات المالية ــ والآن بدأت هذه المنشطات تتلاشى”. ورغم أن هذا لن ينتهي بانهيار مفاجئ، فإن تركيز روسيا واعتمادها على النمو في زمن الحرب خلق تهديدا لا رجعة فيه يتمثل في “فخ الركود”.
تقول بروكوبينكو إن:
- الزخم الاقتصادي سوف يتباطأ في العام المقبل، مما يفسح المجال للاضطرابات الاجتماعية والمالية في العام 2026.
- من المرجح أن تنبع الشقوق الاقتصادية من نفس الشيء الذي أبقى روسيا واقفة على قدميها منذ بدء الحرب في أوكرانيا في 2022، وهو الدعم الشامل الذي يقدمه الكرملين لصناعة الدفاع.
- الإنفاق الروسي الضخم في هذا القطاع من المتوقع أن ينمو، وفي العام 2025 سيشكل الإنفاق الدفاعي والأمني أكثر من 8 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي و40 بالمئة من إجمالي الإنفاق الحكومي.
- هذا يأتي على حساب الاقتصاد الأوسع نطاقاً؛ فالمخصصات بالميزانية للقطاعات غير الدفاعية آخذة في الانكماش، في حين يتم توجيه العائدات الضريبية المتزايدة بشكل حصري تقريبا نحو الاحتياجات العسكرية.
يأتي ذلك في وقت تشهد فيه الصناعات التي لا تسهم في الإنتاج الدفاعي تراجعاً، مثل قطاع إنتاج السلع الأساسية والزراعة. ومع انحدار أسعار الفحم العالمية، يعاني قطاع الفحم في روسيا من خسائر حقيقية للمرة الأولى منذ أربع سنوات. وبحسب بروكوبينكو، فإن هذا أمر كبير؛ فمع وجود 31 بلدة تعمل في صناعة واحدة في هذا القطاع، فإن إغلاقاً واحداً قد يضعف مجتمعًا بأكمله، مما يجبر الحكومة على التدخل بالمساعدات.
- ولكن هناك صناعات أخرى متعثرة ــ تصنيع السيارات، وتجارة التجزئة غير الغذائية، وبناء المساكن ــ تنتظر أيضا مساعدات من الدولة.
- الموارد شحيحة بسبب ركود عائدات النفط والغاز، إلى جانب العقوبات المفروضة على قطاع الطاقة، والتي تحد من التدفقات المالية.
- في حين عوضت عائدات الضرائب مؤقتا عن انخفاض دخل الهيدروكربونات، فإنها تستهلكها النفقات الجارية، فلا يتبقى أي فائض.
- لا يزال من غير الواضح إلى متى قد تتمكن السلطات المركزية من تقديم يد العون، في ظل التوقعات المالية المتشائمة للكرملين.
وأشارت بروكوبينكو إلى أن صندوق الثروة الوطنية الحكومي وصل إلى أدنى مستوياته منذ العام 2008، عند 31 مليار دولار.
فرص وتحديات
من موسكو، أوضح المحلل الروسي، تيمور دويدار، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن:
- الاقتصاد الروسي يعتمد على أسس قوية ومتنوعة تمكنه من الصمود في مواجهة التحديات الحالية التي تواجهها روسيا الاتحادية.
- الاقتصاد الروسي يمكنه الاستمرار في الصمود حتى ما بعد العام 2026، لكن في المقابل، هناك ضبابية كبيرة بشأن إعادة ما فقده الاقتصاد من قدرات في السنوات الأخيرة.
بحسب دويدار، فإن الضبابية تشمل عدم وضوح الرؤية بشأن تحسين الأوضاع المعيشية للمواطن الروسي، وهي نقطة حساسة تؤثر على رضا الشعب، مؤكداً أن الإدارة الروسية لم تقدم حتى الآن خططاً واضحة لمعالجة هذه القضايا على المدى القريب أو المتوسط، ما يزيد من تعقيد الوضع.
وتطرق المحلل الروسي إلى مشكلة أسعار الفائدة المرتفعة، مشيراً إلى أن سعر الفائدة للبنك المركزي الروسي بلغ 21 بالمئة، وهو معدل مرتفع للغاية لا يساعد في دعم المشروعات التنموية أو الخاصة.
وأوضح أن ارتفاع الفائدة قد يكون جزءاً من قرار سياسي معقد يزيد من الضغوط على الاقتصاد، ويعيق الاستثمار في المشروعات الصناعية والتنموية.
على الرغم من هذه التحديات، فإن دويدار أوضح السوق الروسية تمثل فرصة ذهبية للمستثمرين العرب والأجانب، فهناك إمكانية كبيرة لاستغلال الفجوات الحالية لتوظيف الأموال في مشروعات متنوعة والمنافسة بحرية، معتبراً أن دخول السوق الروسية الآن يمثل فرصة استراتيجية، خاصة مع احتمالية رفع بعض العقوبات الاقتصادية في المستقبل القريب.
وفيما يخص التجارة الخارجية، أشار إلى أن:
- الصادرات الروسية تراجعت بشكل كبير نتيجة العقوبات الغربية والمشكلات الاقتصادية المرتبطة بانسحاب الشركات الغربية.
- كما أثرت هذه العوامل على الواردات وأدت إلى عزلة الاقتصاد الروسي عن السوق العالمية بشكل نسبي، ما تسبب في تقلص دور روسيا الإنتاجي والتجاري بشكل عام.
واختتم دويدار تصريحاته بالإشارة إلى أن هذه التحديات، بما فيها نقص الموارد البشرية اللازمة للعملية الإنتاجية، تجعل من الصعب التوصل إلى رؤية إيجابية على المدى القريب. ومع ذلك، عبر عن أمله في أن تؤدي التطورات المستقبلية، بما في ذلك رفع بعض العقوبات، إلى إنعاش الاقتصاد الروسي وتحسين بيئة الاستثمار.
- الروبل الروسي انخفض بنحو 20 بالمئة منذ أدنى مستوياته في الصيف ليتداول عند نحو 103 روبلات للدولار، متأثرا بالعقوبات التي تحد من صادرات روسيا من الطاقة وقدرتها على التعامل دوليا.
- ويحوم معدل البطالة حول 2.3 بالمئة فقط حيث تعمل شركات تصنيع الأسلحة في ثلاث نوبات على مدار الساعة، مدفوعة بالإنفاق المتزايد على الميزانية، ويكافح القطاع المدني لمواكبة هذا النمو.
إنهاء الحرب
ونقل تقرير لصحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية عن محللين ومسؤولين سابقين قولهم إن التوقعات الاقتصادية القاتمة قد تدفع الرئيس فلاديمير بوتين إلى التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب في وقت ما من العام المقبل 2025.
وقال أحد كبار المسؤولين التنفيذيين السابقين في قطاع الطاقة: “إنه (بوتين) يعلم أن الاتحاد السوفييتي انهار بسبب سباق التسلح وسوء الإدارة الاقتصادية. وهو يواصل القول إننا لا نستطيع تكرار أخطاء الاتحاد السوفييتي. إنه بحاجة إلى وقف الحرب”.
ويقول خبراء اقتصاديون إن العديد من المؤشرات تشير إلى وجود مشاكل عميقة في الاقتصاد، وأن الطفرة في الإنفاق تكافح بشكل متزايد لإخفائها.
أحد هذه الأسباب هو نمو أجور العمال غير المهرة نتيجة لموجة التوظيف في قطاع الدفاع. فقد ارتفعت بعض الرواتب بنسبة تصل إلى 45 بالمئة في النصف الأول من هذا العام.
وتقول إلينا ريباكوفا، وهي زميلة بارزة في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، إن موجة التوظيف كانت تهدف إلى “إلقاء الناس في الخطوط الأمامية وإنتاج الكلاشينكوف. وهذا ليس نمواً في الإنتاجية”.
وتعاني روسيا أيضا من نقص العمالة الماهرة. ففي وقت سابق من هذا الشهر، قال نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك إن روسيا تواجه نقصا قدره 1.5 مليون عامل من ذوي المهارات العالية، وخاصة في قطاعات البناء والنقل والمرافق.
ركود تضخمي محتمل
الاستاذ بكلية موسكو العليا للاقتصاد، رامي القليوبي، أفاد في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، بأنه “من المبكر جداً الحديث عن توقعات العام 2026 الواردة في التقارير الأخيرة”، مضيفاً:
- لا أتوقع أن يتوقف الاقتصاد الروسي عن النمو بشكل كامل، لكنه قد يواجه ركوداً تضخمياً لعدة أسباب.
- على مدى الأعوام الماضية منذ بدء الحرب، أصبحت الحرب في أوكرانيا بمثابة قاطرة للاقتصاد الروسي ونوع من المنشطات التي أسهمت في تسريع نموه.
- الحرب أدت إلى تطوير قطاع الصناعات الحربية، الذي وفر نحو مليوني وظيفة في مختلف أنحاء روسيا. كما أبرمت المصانع عقوداً ضخمة لتوريد الأسلحة لوزارة الدفاع.
- إضافة إلى ذلك، يتقاضى الجنود المقاتلون على الجبهة رواتب مغرية، تُسهم في نهاية المطاف في عجلة الاقتصاد، سواء من خلال الاستهلاك المباشر أو عبر القروض والرهن العقاري.
- لكن، على المدى البعيد، قد يواجه الاقتصاد الروسي تحديات بسبب تهميش القطاع المدني من الاقتصاد.
وتابع: قد تظهر هذه المشكلات في العام 2025 أو 2026، ولكن من المبكر الآن إطلاق تقديرات بعيدة المدى، موضحاً أن الحرب قد تنتهي العام المقبل، أو قد تزداد شراستها، وهو ما يجعل من الصعب الحكم مسبقاً على طبيعة الاقتصاد في العام 2026.
واختتم حديثه قائلاً: “كما أنني أشكك في مصداقية بعض الجهات البحثية التي تطلق مثل هذه التقديرات السلبية بالنسبة للاقتصاد الروسي دون أسس واضحة.”