البنوك الأميركية تتألق.. والاقتصاد يترقب انفجار الفقاعة

تواصل البنوك الأميركية الكبرى تسجيل حضور قوي في مشهد الأسواق المالية العالمية، وسط مؤشرات متباينة تعكس مزيجاً من الثقة والحذر في آن واحد. وفي الوقت الذي تشهد فيه وول ستريت نشاطًا ملحوظًا وعودة تدريجية للصفقات والاستثمارات، تتجه الأنظار إلى نتائج الربع الثالث التي تعيد الزخم إلى القطاع المصرفي بعد فترة من التباطؤ والضبابية.

تشير التحركات الأخيرة في السوق إلى حالة من التفاؤل المدروس، مدفوعة بآمال بانتعاش اقتصادي واستمرار مرونة الإنفاق الاستهلاكي الأميركي، لكن خلف هذا الازدهار الظاهري، تتصاعد تساؤلات حول مدى استدامة هذا النمو، خاصة في ظل ارتفاع مستويات الديون وتشديد السياسات النقدية خلال العامين الماضيين.

يستعد الخبراء والمحللون لمراقبة المرحلة المقبلة عن كثب، حيث تتزامن مؤشرات الأداء القوي للبنوك مع مخاوف من فقاعة مالية محتملة قد تعيد تشكيل المشهد الاقتصادي العالمي.

وبين الأرباح القياسية والتحذيرات المتزايدة، يبدو أن وول ستريت تدخل مرحلة دقيقة تتطلب قراءة متأنية لما وراء الأرقام.

أرباح ضخمة

أعلنت بنوك غولدمان ساكس وجيه بي مورغان تشيس وسيتي غروب عن تحقيق أرباح ضخمة عبر أقسامها في وول ستريت، على الرغم من تحذيرها من أن حماس المستثمرين قد يدفع الارتفاع الأخير في الأسواق المالية إلى منطقة الفقاعات، بحسب تقرير لصحيفة فايننشال تايمز.

• أعلنت البنوك الثلاثة عن أرباح ربع سنوية يوم الثلاثاء تجاوزت بشكل تقديرات المحللين، مع ارتفاع إيرادات الخدمات المصرفية الاستثمارية، كما أدى استمرار التقلب في الأسواق المالية إلى تعزيز دخل التداول.
• ارتفع صافي دخل جي بي مورغان بنسبة 12 بالمئة مقارنةً بالربع نفسه من العام السابق ليصل إلى 14.3 مليار دولار، بينما ارتفع صافي أرباح جولدمان ساكس – البنك الذي يركز نشاطه بشكل كبير على الخدمات المصرفية الاستثمارية والتداول – بنسبة 37 بالمئة ليصل إلى 4.1 مليار دولار. وارتفع صافي دخل سيتي بنسبة 18 بالمئة ليصل إلى 3.5 مليار دولار.
• وارتفعت الإيرادات من الخدمات المصرفية الاستثمارية والتداول بنسبة 12 بالمئة على الأقل في جميع البنوك الثلاثة، في إشارة إلى أن الانتعاش الذي طال انتظاره في وول ستريت تحت إدارة ترامب بدأ يتحقق أخيرا.

وتوقع المصرفيون أن يُمهّد موقف الإدارة الأميركية المُحرِّر من القيود التنظيمية، وانخفاض أسعار الفائدة، الطريقَ لسيلٍ من الصفقات بعد انقطاعٍ دام أكثر من عامين. إلا أن ذلك لم يتحقق في الأشهر الأولى من العام، إذ واجهت الشركات صعوبةً في فهم تأثير الحروب التجارية التي شنّتها الإدارة على توقعات النمو والأرباح، بحسب الصحيفة.

أشارت البنوك يوم الثلاثاء إلى أنها تتوقع الآن أن تستمر المكاسب في أعمالها في وول ستريت لبقية هذا العام وحتى عام 2026.

فقاعة ائتمان

لكن في سياق متصل،  يؤكد رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets، جو يرق لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن هناك مخاوف حقيقية من فقاعة ائتمان بدأت ملامحها تتضح في الأسواق الأميركية، موضحاً أن العديد من البنوك الكبرى تطرقت إلى هذا الملف خلال الأيام الماضية، لا سيما مع تصريحات جيمي ديمون الرئيس التنفيذي لبنك جي بي مورغان، الذي حذر من ارتفاع مستويات الديون.

ويشير يرق إلى أن الفترة الأخيرة شهدت استمراراً في ارتفاع معدلات الفائدة بشكل لافت، ما أدى إلى زيادة حالات التخلف عن السداد سواء في بطاقات الائتمان للأفراد أو ديون الشركات، وهو ما يعكس حالة ضغط واضحة على النظام المالي الأميركي.

ويضيف أن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي قد يتجه إلى تخفيض الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس خلال العام الجاري، تليها خطوة مماثلة في عام 2026، الأمر الذي من شأنه أن يمنح بعض الاستراحة المؤقتة لقطاع الائتمان. ويتابع جو يرق قائلاً إن البنوك الاستثمارية الأميركية بدأت بالفعل تكوين مخصصات إضافية تحسبًا لخسائر محتملة ناجمة عن ارتفاع التخلفات في السداد، سواء على المدى المتوسط أو الطويل، في إشارة إلى أن القطاع المصرفي يتعامل بحذر بالغ مع المرحلة المقبلة.

ويؤكد أن أي تباطؤ أو صدمة اقتصادية في الولايات المتحدة قد يكون لها انعكاسات سلبية خطيرة على الشركات والأفراد والنمو الاقتصادي بشكل عام، خاصة في ظل بلوغ ديون الأسر الأميركية أكثر من تريليوني دولار وارتفاع معدلات الفائدة على ديون الشركات بشكل مقلق.

ويختتم يرق حديثه بالتأكيد على أنه “كلما سارع الفيدرالي الأميركي في خفض الفائدة قد تكون حدة انفجار فقاعة الائتمان أقل، لكن لا يمكن إنكار أن الاقتصاد الأميركي يقف أمام تحدٍ حساس يتطلب إدارة دقيقة ومتوازنة للفائدة والديون خلال المرحلة المقبلة”.

توقعات إيجابية

 في المقابل، تُظهر تقارير أخرى قدراً أكبر من التفاؤل حيال استمرار الزخم في القطاع المصرفي. ويشير تقرير لـ “رويترز” إلى أن كبار المصرفيين الأميركيين يتوقعون استمرار الأعمال في الازدهار مع ارتفاع أسواق الأسهم خلال الربع الأخير من العام  وصمود الاقتصاد والإنفاق الاستهلاكي على الرغم من التعريفات الجمركية الشاملة، لكن البعض حذر من أن أسعار الأصول ربما تكون مرتفعة بشكل غير مستدام.

تظل الأوضاع المالية للمستهلكين صحية، حيث أشار بنك جي بي مورغان إلى أن معدلات تخلف المستهلكين عن السداد تتجه إلى ما دون التوقعات، على الرغم من أن المسؤولين التنفيذيين قالوا إنهم يراقبون أي تدهور مع ضعف بيانات سوق العمل.

كما قالت جين فريزر، الرئيسة التنفيذية لمجموعة سيتي غروب، خلال مؤتمر عبر الهاتف: “تعكس البيئة الاقتصادية الكلية الاقتصاد العالمي الذي أثبت مرونةً تفوق توقعات الكثيرين. ولا تزال الولايات المتحدة رائدةً في هذا المجال، مدفوعةً بالإنفاق الاستهلاكي المستمر، بالإضافة إلى الاستثمارات التكنولوجية”.

وصرح مايك سانتوماسيمو، المدير المالي لبنك ويلز فارجو، للصحفيين بأن الصفقات المطروحة تبدو جيدة. وقال نظيره في جي بي مورغان، جيريمي بارنوم، إن البنك شهد صيفًا هو الأكثر نشاطًا في عمليات الدمج والاستحواذ منذ فترة طويلة، وأن أسواق رأس المال وظروف الطرح العام الأولي كانت قوية أيضًا مع بداية الربع الرابع.

نتائج الأعمال

من جانبه، يؤكد خبير أسواق المال محمد سعيد لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن نتائج أرباح البنوك الأميركية للربع الثالث من عام 2025 تبدو في ظاهرها ممتازة ومبهرة للغاية، في الوقت الذي حققت فيه البنوك الكبرى مثل جي بي مورغان وغولدمان ساكس وسيتي غروب أرباحاً قوية تجاوزت توقعات المحللين، مدفوعةً بانتعاش لافت في أنشطة الخدمات المصرفية الاستثمارية.

ويضيف سعيد أن هذا الانتعاش تجلى بوضوح في زيادة رسوم صفقات الاندماج والاستحواذ والطروحات الأولية، إلى جانب إيرادات تداول قياسية عكست شهية عالية للمخاطر في الأسواق المالية. لكنه يوضح في المقابل أن الصورة الكاملة ليست وردية كما تبدو للوهلة الأولى، ذلك أن “القصة الحقيقية”، كما يقول، تكمن تحت السطح، حيث يحذر الرؤساء التنفيذيون لهذه البنوك أنفسهم من موجة “حمّى استثمارية” قد تكون مبالغًا فيها، مشيرين إلى أن أسعار بعض الأصول دخلت بالفعل منطقة الفقاعة.

ويتابع سعيد أن هذا يعني أن الأرباح الحالية ربما تكون نتاجاً لسيولة ضخمة دفعت الأسعار إلى مستويات غير مستدامة، وهو ما قد يمهد لمخاطر مستقبلية كبيرة. ويؤكد أن التحذير من “فقاعة الائتمان” يعكس قلقًا متزايدًا من تراكم الديون بشكل مقلق، خصوصًا في قطاعات أقل تنظيمًا مثل الائتمان الخاص.

ويشير إلى أن المؤشرات التحذيرية بدأت تظهر بالفعل، لاسيما في قروض السيارات عالية المخاطر.

ورغم أن إنفاق المستهلكين لا يزال قويًا ومعدلات التعثر في السداد أقل من المتوقع حتى الآن، إلا أن البنوك بدأت تتخذ إجراءات احترازية واضحة.

ويضيف سعيد أن الدليل الأبرز على هذا الحذر هو زيادة البنوك لمخصصات خسائر الائتمان، موضحًا أن هذه الخطوة تعني أن المؤسسات المصرفية تتوقع تراجعًا في جودة القروض خلال الفترة المقبلة، لا سيما مع تباطؤ النمو الاقتصادي، وضغوط محتملة على المقترضين من أصحاب الدخل المنخفض والمتوسط وقطاع العقارات التجارية.

ويختتم خبير أسواق المال محمد سعيد حديثه بالقول إن نتائج الأرباح حتى الان تعكس مشهدًا مزدوجًا، فمن ناحية، هناك قوة حالية واضحة في القطاع المصرفي الأميركي مدفوعة بنشاط استثماري مرتفع واقتصاد لا يزال مرنًا، لكن من ناحية أخرى، تظهر مؤشرات مقلقة على أن هذه القوة قد تكون مؤقتة، وأن الاقتصاد الأميركي ربما يقترب من حافة خطرة، حيث قد يؤدي أي تصحيح حاد في أسعار الأصول إلى انفجار فقاعة الائتمان.

توقعات البنوك المركزية العالمية لأسعار الفائدة