التسوق الليلي عبر الإنترنت
في زمن تتحكم فيه التجارة الإلكترونية بإيقاع حياتنا الاستهلاكية، لم يعد التسوق نشاطا مرتبطا بساعات النهار أو أوقات الفراغ في العطلات، فالمنصات الرقمية جعلت كل شيء متاحا “بنقرة زر” على مدار الساعة. وهذا التغيير، ساهم في ظهور ما يعرف بنمط “التسوق الليلي”، إذ يختار الكثير من المستهلكين التسوق في ساعات متأخرة، استجابة لإيقاع حياتهم المزدحم وضغوط العمل، التي لا تمنحهم وقتا كافيا للتسوق خلال النهار.
ورغم أن هذه العادة تبدو للوهلة الأولى ميزة عصرية تمنح المستهلك حرية أكبر وتلبي احتياجاته الفورية، إلا أن التسوق الليلي عبر الإنترنت يحمل في طياته مخاطر مالية خفية، حيث يشير الخبراء إلى أن القرارات الشرائية التي تُتخذ في أوقات متأخرة من الليل، تكون أقل عقلانية وأكثر اندفاعاً، وذلك بفعل الإرهاق الذهني وتراجع القدرة على ضبط النفس، ففي ساعات الليل يكون مستوى الطاقة منخفضاً بعد يوم عمل طويل، ما يقلل قدرة الدماغ على مقاومة الإغراءات المالية.
في المقابل، تستفيد المنصات الإلكترونية من هذه “الثغرة السلوكية”، عبر تكثيف العروض والإشعارات الترويجية في ساعات المساء، وذلك بهدف دفع المستهلك للقيام بعمليات شراء طارئة وغير محسوبة، إذ تُجمع العديد من الدراسات، على أن نحو ثلث المعاملات الإلكترونية تحدث خلال ساعات المساء، مما يعكس تفضيلات المستهلكين واحتياجاتهم في تلك الأوقات، وهو التوجّه الذي تستغلّه المنصات.
فخ مالي مموّه
ويثير سلوك المنصات الإلكترونية تجاه التسوق الليلي، تساؤلات جوهرية حول تأثيرها على قرارات المستهلكين، وتحويل عادة ممتعة إلى فخ مالي مموّه بثوب الراحة، ما يؤثر بطريقة سلبية على الميزانية الشهرية للأفراد، ويضعهم أمام مخاطر تكبّد أعباء مالية تتجاوز قدراتهم.
ففي ساعات الليل الهادئة، يتحول التسوق عبر الإنترنت إلى لعبة مالية دقيقة، وما يبدأ بلحظة كصفقة صغيرة، قد يتحول سريعاً إلى سلسلة من الالتزامات المالية، مع تراكم الصفقات نتيجة الإغراءات الرقمية صعبة المقاومة، فبحسب دراسة حديثة أجرتها شركة “أدوبي” ونشرت نتائجها في أغسطس 2025، تبين أن
أن التسوّق الليلي الالكتروني يمكن أن يحقق أعلى الإيرادات للشركات، رغم انخفاض نسبة تصفح الإنترنت في ذلك التوقيت.
وأظهرت الدراسة أن متوسط إنفاق المتسوقين في أميركا في وقت متأخر من الليل، وتحديداً بين الساعة 10 مساءً و3:59 فجراً يبلغ 3684 دولاراً سنوياً، وهو أعلى مُعدّل إنفاق سنوي يُسجّل على التسوّق الالكتروني مقارنة بالأوقات الأخرى، علماً أن نسبة متصفحي الإنترنت بين الـ 10 مساءً و3:59 فجراً لا تمثل سوى 9 في المئة من إجمالي متصفحي الإنترنت في أوقات أخرى.
سلوك يخفي أبعاداً مالية خطيرة
وتقول الخبيرة في سلوك المستهلكين ساندرا ملحم، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيز عربية”، إن التسوق الليلي عبر الإنترنت لم يعد مجرد سلوك فردي عابر، بل أصبح نمطاً استهلاكياً منظماً يعكس التحولات في حياتنا اليومية، ففي الماضي كان التسوق نشاطاً مرتبطاً بمواعيد محددة، ولكن الثورة الرقمية ألغت تلك الحدود، وجعلت عملية التبضع متاحة على مدار الساعة، حيث يجد الكثير من الأفراد في هدوء الليل فرصة للبحث عن منتجات لم يتمكنوا من التفكير فيها خلال يومهم المزدحم بالمهام.
وبحسب ملحم فإن المشكلة في هذا السلوك، تكمن في أنه يخفي وراءه أبعاداً مالية خطيرة، فالدماغ في ساعات الليل يعاني من تراجع قدراته على التفكير المنطقي بسبب الإرهاق الذهني، مما يجعل المستهلك أكثر عرضة لاتخاذ قرارات شرائية اندفاعية، حيث تستغل الشركات نقطة الضعف هذه لتكثيف مبيعاتها، وهذه الاستراتيجية ليست عشوائية، بل مبنية على علم الاقتصاد السلوكي، الذي يُصنّف التسوق الليلي كامتداد لثقافة “الراحة الفورية”، التي أصبحت إحدى السمات البارزة لعصرنا الرقمي، فالمستهلك لم يعد مستعداً للانتظار أو التخطيط المسبق، بل يبحث عن الحلول الأسرع وذلك كنوع من “المكافأة الذاتية” التي تريحه مؤقتاً لكنه تضره مالياً على المدى الطويل.
هل التسوق أونلاين أصبح هوسا؟.. تعرف على الإجابة
كيف يمكن مواجهة هذه الظاهرة؟
وتعتبر ملحم أن الحل لا يكمن في منع التسوق الليلي، الذي أصبح جزءاً من المرونة التي وفرتها التكنولوجيا، بل في تطوير استراتيجيات تساعد في الحد من المخاطر، فالاكتفاء بالنصائح التقليدية مثل ضبط الميزانية أو التخلّص كلياً من البطاقات الائتمانية لا يجدي نفعاً لوحده، حيث أن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب حلولاً مبتكرة تتماشى مع طبيعة العصر الرقمي، فعلى سبيل المثال يمكن تطوير تطبيقات مصرفية ذكية مزوّدة بخاصية “التحكم الزمني”، بحيث تتيح للمستخدم تحديد ساعات يُمنع عليه خلالها تنفيذ عمليات شراء، مشيرةً إلى أنه يمكن أيضاً إجبار المنصات التجارية على تبني أدوات “التسوق الواعي”، التي توّفر إشعارات تنبيهية تُظهر للمستخدم مجموع إنفاقه خلال الشهر مقارنة بدخله، أو رسائل تُذكّره بما إذا كان المنتج الذي يشتريه ضرورياً له، أو حتى عبر إدراج وضعية “الشراء المسؤول” التي تُقيد الإنفاق بما يتناسب مع ميزانية العميل الشهرية.
وترى ملحم أنه يمكن أيضاً للهيئات الرقابية في العالم، إطلاق حملات توعية تستهدف فئة الشباب الذين يُعتبرون الأكثر عرضة للتسوق الليلي، إضافة إلى دمج محتوى تثقيفي داخل منصات التواصل الاجتماعي، يشرح آليات “التلاعب الرقمي”، التي تستخدمها المتاجر والمنصات الرقمية، مشددةً على أنه من خلال هذه الأدوات، يصبح من الممكن تحويل التسوق الليلي، من فخ مالي إلى تجربة أكثر توازناً، تحفظ متعة التسوق لكن دون التضحية بالاستقرار المالي للأفراد.