الصين واليابان
تتصاعد التوترات بين الصين واليابان بوتيرة متسارعة، لتضع الاقتصاد الآسيوي والعالمي على فوهة بركان مُستعر، بعد أن فجّرت تصريحات رئيسة الوزراء اليابانية تاكايتشي صدامًا سياسيًا واقتصاديًا مرشحًا للتوسع والتفجر.
فبينما أعلنت أن اليابان قد تتدخل عسكريًا في حال نشوب صراع بين الصين وتايوان، جاء الرد الصيني قاسيًا عبر رسائل اقتصادية ضاغطة وتهديدات مباشرة بتقييد السياحة والتجارة والمعادن النادرة، في نزاع يبدو أنه يتجاوز حدود الجغرافيا ليطال توازنات القوى العالمية.
حرب صامتة تشتعل بين الصين واليابان
وفي قراءة معمقة لمشهد الأزمة، يرى رئيس وحدة العلاقات الدولية في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية د. أحمد قنديل في تصريحات لبرنامج “بزنس مع لبنى” على سكاي نيوز عربية، أن جذور التصعيد لا ترتبط فقط بتايوان، بل بفقدان الثقة وصعود قوميات متشددة في البلدين، إلى جانب غموض الموقف الأميركي الذي يدفع طوكيو لإعادة بناء قوتها العسكرية.
تصعيد يتجاوز السياسة إلى أعماق الاقتصاد
بدأت بكين سلسلة من ردود الفعل الانتقامية بعد التصريحات اليابانية حول تايوان، إذ لوّحت بفرض قيود اقتصادية على اليابان شملت منع المواطنين الصينيين من السفر إلى الأراضي اليابانية وتقييد حركة التجارة الثنائية. وتمثل هذه الخطوة ضربة قاسية لقطاع رئيسي في الاقتصاد الياباني، حيث يستقبل البلد سنويًا 8 ملايين سائح صيني ينفقون مليارات الدولارات، وتشير البيانات الاقتصادية إلى أن وقف هذا التدفق السياحي سيكلف اليابان نحو 14 مليار دولار سنويًا.
ولا يقف التشابك الاقتصادي عند حدود السياحة، إذ تضم اليابان أكثر من 120 ألف طالب صيني، وتبلغ قيمة التبادل التجاري بين البلدين 293 مليار دولار، كما تعتمد اليابان على الصين في 60 بالمئة من وارداتها من المعادن النادرة التي تمثل العمود الفقري لصناعة السيارات والتكنولوجيا والرقائق الإلكترونية.
ويرى د. قنديل أن أي توقف لتوريد تلك المعادن سيوجه ضربة قاسية لصناعة التكنولوجيا اليابانية وسيضغط بقوة على سلاسل الإمداد اليابانية.
قنديل: الأزمة بين بكين وطوكيو أعمق من تايوان
فقدان الثقة وصعود القومية المتشددة
يؤكد د. قنديل خلال حديثه أن السبب الحقيقي وراء التصعيد المتبادل هو تراجع الثقة بين قادة الصين واليابان وصعود التيارات القومية المتشددة في البلدين، مشيرًا إلى أن وصول رئيسة الوزراء اليابانية تاكايتشي المعروفة بتوجهاتها القومية الصقورية إلى السلطة مثّل مؤشرًا خطيرًا في بكين.
ويضيف أن اليابان كانت مقيّدة دستوريًا وقانونيًا وأخلاقيًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية نتيجة الفظائع التي ارتكبت في الدول الآسيوية المجاورة، ما ترك ذاكرة أليمة لدى شعوب الصين وكوريا ودول جنوب شرق آسيا. لكن عودة التيار اليميني المتشدد في اليابان أثارت مخاوف الصين، خاصة بعد تصريح رئيسة الوزراء في 7 نوفمبر بأن الغزو العسكري أو الحصار البحري لتايوان يمثل تهديدًا وجوديًا لليابان.
غموض واشنطن يعيد تشكيل الحسابات الاستراتيجية
وفي تحليله لدور الولايات المتحدة، يوضح د. قنديل أن إدارة الرئيس دونالد ترامب تتبع غموضًا استراتيجيًا متذبذبًا في المنطقة، فهي تارة تهدد بالدفاع عن تايوان ضد الصين، وتارة تصف النزاع بأنه شأن داخلي صيني لا يستدعي تدخلًا أميركيًا مباشرًا، خاصة مع انشغالها بالحرب في أوكرانيا وتوترات الشرق الأوسط.
ويرى أن هذا الموقف الأميركي دفع طوكيو إلى تعزيز قدراتها العسكرية بما يسمح لها بالدفاع الذاتي بعيدًا عن الاعتماد الكامل على المظلة الأميركية، وفي الوقت نفسه شجع بكين على الاعتقاد بأن الولايات المتحدة ضعيفة أو غير راغبة في خوض حرب كبرى دفاعًا عن تايوان أو عن نفوذها في بحر الصين الجنوبي.
العقوبات الاقتصادية.. السلاح الأكثر فاعلية في يد بكين
يؤكد د. قنديل أن الصين لا تميل إلى استخدام الأدوات العسكرية وإنما تفضل الأدوات الاقتصادية الأكثر تأثيرًا وأقل تكلفة، مستشهدًا بتجربة بكين في فرض عقوبات غير رسمية على كوريا الجنوبية في عامي 2010 و2017 عندما استوردت منظومات دفاع جوي أميركية متقدمة، وهو ما أحدث تأثيرًا قويًا على سيول وقراراتها الاستراتيجية.
ويشير إلى أن انعكاسات التهديدات الصينية الأخيرة ظهرت سريعًا في الاقتصاد الياباني، إذ بدأت البورصة اليابانية تعكس حالة القلق بعد تحذيرات بكين لمواطنيها بعدم السفر إلى اليابان، وتراجعت أسهم شركات السياحة اليابانية التي تعتمد على السائح الصيني بنسبة كبيرة، كما انخفضت أسعار أسهم الشركات الصناعية التي تعتمد على المواد الخام الصينية.
أوراق القوة وموازنة المخاطر بين الاقتصاد والحرب
ورغم تشدد الردود الصينية، يؤكد قنديل أن الصين لن تضحي باليابان كشريك اقتصادي مهم تعتمد عليه في التكنولوجيا المتقدمة وفي سوق ضخم لصادراتها، خصوصًا في ظل الحرب التجارية مع الولايات المتحدة والتحقيقات التجارية الأوروبية.
لكن في المقابل، تريد بكين توجيه رسالة قوية لصانع القرار الياباني بأن إدارة العلاقات مع الصين لن تخضع للمصالح الأميركية، خصوصًا بعد إعلان اليابان ضخ استثمارات بقيمة 550 مليار دولار في الاقتصاد الأميركي خلال السنوات المقبلة، وهو ما تعتبره الصين مؤشرًا واضحًا على تصاعد التحالف الياباني الأميركي في مواجهة صعودها الاقتصادي والعسكري.
رسائل ميدانية ودبلوماسية وعسكرية
ويوضح د. قنديل أن الصين أرسلت رسائل متعددة المستويات في الأيام الماضية شملت:
- ردًا اقتصاديًا انتقاميًا تجاه اليابان
- تحركات عسكرية لأسطولها قرب جزر سينكاكو / دياويو المتنازع عليها
- استدعاء السفير الياباني في بكين وإبلاغه احتجاجًا شديدًا
ويحذر من أن الصين لن تتردد في استخدام كل الوسائل المتاحة للحفاظ على مصالحها الحيوية وفي مقدمتها منع استقلال تايوان، معتبرًا أن تجاهل هذه الرسائل سيقود إلى تصعيد خطير قد يزعزع استقرار المنطقة بأكملها.
حرب محتملة بصيغة اقتصادية قبل أن تكون عسكرية
رغم أن اندلاع حرب مباشرة بين الصين واليابان حول تايوان لا يزال غير متوقع، إلا أن د. قنديل يؤكد أنها ستكون كارثية في حال حدوثها ولن تبقى محصورة داخل حدود الدولتين، بل ستشمل الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا، بما يهدد استقرار النظام الدولي وسلاسل الإمداد العالمية.
ففي عالم تتحكم فيه الجغرافيا الاقتصادية بالسياسة الدولية، قد تكون رصاصة الحرب الأولى قرارًا اقتصاديًا لا قذيفة عسكرية.
نيران تحت الرماد: صدام صيني–ياباني يهدد الأسواق العالمية

