ترامب
تشهد السياسة الخارجية الأميركية تحركات متسارعة في منطقة الشرق الأوسط، حيث تواصل الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض مساعيها لإعادة صياغة التحالفات وموازين النفوذ، في ظل عالم يتسم بتعقيدات اقتصادية وجيوسياسية متزايدة.
وفي هذا الإطار، تكتسب الزيارات الرئاسية طابعاً يتجاوز البروتوكول الدبلوماسي، لتصبح أدوات مباشرة لتثبيت المصالح الاستراتيجية وتوقيع الشراكات الكبرى، لاسيما في المناطق الحيوية كالخليج العربي، الذي ما زال يشكّل محوراً أساسيًا في معادلات الطاقة والاستثمار والأمن الدولي.
وتأتي الجولة الخليجية الحالية للرئيس الأميركي دونالد ترامب لتسلّط الضوء مجددًا على طبيعة العلاقات الأميركية مع دول الخليج، وما تحمله من مكاسب سياسية واقتصادية مزدوجة، تعكس تداخلاً عميقًا بين حسابات الداخل الأميركي ومقتضيات التنافس الدولي.
مكاسب اقتصادية
اقتصادياً، أعلن الرئيس دونالد ترامب عن اتفاقيات بقيمة مئات المليارات من الدولارات خلال اليومين الماضيين في زيارته للخليج، حيث انضم إليه كبار المسؤولين التنفيذيين الأميركيين البارزين الذين وقعوا اتفاقيات لمشاريع في الدفاع والطيران والذكاء الاصطناعي، من بين مشاريع أخرى.. ويستعرض تقرير لـ “فوربس” أبرز تلك الصفقات والمكاسب الاقتصادية التي حققها في أول يومين من زيارته:
أحدث تلك الاتفاقات كان في قطر (محطته الثانية ضمن جولته الخليجية)، حيث قال البيت الأبيض إن ترامب وقع الأربعاء اتفاقية للاستثمارات بين البلدين بقيمة تزيد على 243.5 مليار دولار، وحدد خططا لزيادة الاستثمار إلى 1.2 تريليون دولار .
- وافقت الخطوط الجوية القطرية على شراء 210 طائرات بوينغ بقيمة 96 مليار دولار، وهو ما يمثل أكبر صفقة ييسرها ترامب منذ وصوله إلى الشرق الأوسط، حسبما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز .
- وقعت شركة الربان كابيتال القطرية اتفاقية مع شركة الحوسبة Quantinuum لاستثمار مليار دولار في تكنولوجيا الكم وتطوير القوى العاملة في الولايات المتحدة.
- كما وقعت الولايات المتحدة عدة اتفاقيات دفاعية مع قطر، بما في ذلك صفقة بقيمة مليار دولار لقطر لشراء تكنولوجيا الدفاع عن الطائرات بدون طيار من شركة رايثيون آر تي إكس، واتفاقية بقيمة 2 مليار دولار لقطر لشراء طائرات بدون طيار من شركة جنرال أتوميكس.
وفي محطته الأولى ضمن جولته الخليجية، في السعودية، قال البيت الأبيض يوم الثلاثاء إن المملكة العربية السعودية وافقت على استثمارات بقيمة 600 مليار دولار. في حين تم توقيع 145 صفقة إضافية بقيمة تزيد عن 300 مليار دولار في منتدى الاستثمار السعودي الأميركي الذي حضره العديد من المليارديرات الأميركيين وكبار المديرين التنفيذيين في مجال الأعمال.
- قال البيت الأبيض إن الاتفاق الذي وقعه ترامب يتضمن اتفاقا بقيمة 142 مليار دولار للسعودية لشراء معدات وخدمات عسكرية من أكثر من 12 شركة دفاعية أميركية.
- تشمل الاستثمارات البالغة 600 مليار دولار 20 مليار دولار من شركة DataVolt السعودية لمراكز بيانات الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية للطاقة في الولايات المتحدة، و80 مليار دولار في التقنيات في كلا البلدين من Google وDataVolt وOracle وSalesforce وAMD وUber.
- كما تضمنت الاتفاقية أعمالا بقيمة تزيد عن ملياري دولار من جانب شركات أميركية في مشاريع البنية التحتية السعودية، بما في ذلك مطار الملك سلمان الدولي ومجمع القدية الترفيهي.
- تعتزم شركة إنفيديا بيع 18 ألف شريحة ذكاء اصطناعي لشركة هومين الجديدة المدعومة من السعودية والتي انطلقت يوم الاثنين ويرأسها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
- أعلنت شركة AMD الأميركية عن مشروع بقيمة 10 مليارات دولار مع المملكة العربية السعودية لتوفير الرقائق والبرمجيات لمراكز بيانات الذكاء الاصطناعي “الممتدة من المملكة العربية السعودية إلى الولايات المتحدة”.
- أعلنت شركة هومين أيضًا عن صفقات مع Global AI وCisco وAmazon، والتي ستبني “منطقة الذكاء الاصطناعي” في المملكة العربية السعودية، بما في ذلك البنية التحتية الجديدة للذكاء الاصطناعي والخوادم والشبكات لتسهيل التدريب على الذكاء الاصطناعي بشكل أكثر كفاءة، حسبما قالت الشركة.
المكاسب السياسية
سياسياً، وبعيداً عن الصفقات والدفعة التي تشهدها العلاقات الاقتصادية بين ترامب ودول الخليج، يحقق الرئيس الأميركي خلال زيارته للخليج مكاسب سياسية مهمة تعزز موقعه داخليًا وخارجيًا. فمن الناحية الجيوسياسية، تؤكد الزيارة التزام واشنطن بحماية مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وسط تصاعد النفوذ الصيني والروسي. كما تمكّنه من إعادة ترميم الشراكات التقليدية مع دول الخليج، خاصة في ملفات الطاقة والتعاون الأمني، مما يعزز صورته كقائد قادر على إدارة التوازنات الدولية وتكريس الحضور الأميركي في منطقة حيوية.
سوريا تتحرر من 2879 قيداً… ترامب يُعلن رفع العقوبات
وداخلياً، تمنح الزيارة الرئيس دفعة سياسية في مواجهة الانتقادات بشأن السياسة الخارجية، إذ تظهره كصانع قرارات يدير تحالفات مع أنظمة تمتلك وزناً اقتصادياً ونفوذاً إقليمياً.
إعادة تموضع
من موسكو، يقول الباحث والمحلل السياسي ديمتري بريجع في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن الولايات المتحدة تحت قيادة ترامب تحاول إعادة التموضع في منطقة الشرق الأوسط، في سياق منافسة جيوسياسية متصاعدة مع الصين. وأن هذه العودة الأميركية لا تعتمد على إدارة الأزمات كما في العقود السابقة، بل تقوم على مقاربة واقعية قائمة على الاقتصاد والقوة الصلبة. فبدلاً من التحالفات الأمنية التقليدية، تسعى واشنطن إلى ترسيخ شراكات تنموية واستثمارية عميقة مع دول الخليج.
ويشير هنا إلى التعهدات الاستثمارية التي قدّمتها المملكة العربية السعودية -المحطة الأولى في جولة ترامب الخليجية- والاتفاقات التي تم التوصل إليها والصفقات المشتركة بين الجانبين.
ويضيف: “التحركات الأميركية تهدف أيضاً إلى تقليص نفوذ الصين وروسيا، خصوصاً بعدما أصبحت بكين الشريك التجاري الأول لدول الخليج.. وتسعى واشنطن عبر صفقات الذكاء الاصطناعي إلى تقديم بدائل تكنولوجية وتمويلية تقلّص من الاعتماد على الصين، وتعيد ربط اقتصادات الخليج بالسلاسل الأميركية”.
ويوضح بريجع أنه ضمن مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، يعيد ترامب أيضاً طرح الملف السوري من زاوية اقتصادية، عبر رفع العقوبات وإتاحة الفرصة لإعادة الإعمار بتمويل خليجي وأميركي، بما يشجع على عودة اللاجئين ويؤسس لنمو اقتصادي مستدام.
تعزيز الحضور الأميركي
على الجانب الآخر، يعتقد الأستاذ في كلية موسكو العليا للاقتصاد، الدكتور رامي القليوبي، بأن جولة ترامب لا تعني بالضرورة عودة الولايات المتحدة للمنطقة، لأنها في الواقع لم تبتعد عن منطقة الخليج أصلاً، بينما ما تغير في السنوات الأخيرة هو تراجع أهمية المعادلة التقليدية التي قامت لعقود على بين الولايات المتحدة والمنطقة، والتي أساسها النفط.
ويستطرد في حديثه مع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- الولايات المتحدة باتت تحقق نوعاً من الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة بفضل ثورة النفط الصخري، في حين بدأت الدول الخليجية بتنويع علاقاتها الدولية، كما نرى في انضمام دولة الإمارات إلى مجموعة بريكس.
- لكن رغم هذه المتغيرات، لم تغب الولايات المتحدة عن المنطقة يوماً. على سبيل المثال، السعودية لا تزال من أكبر المستثمرين في أدوات الدين الأميركية..
- من هذا المنطلق، فإن زيارة ترامب تعزز الحضور الأميركي، لكنها لا تعيده، لأنه في الواقع لم يُفقد.
الفرص والتحديات السياسية
وفيما يتعلق بالفرص والتحديات التي تواجه إدارة ترامب في منطقة الشرق الأوسط، فقد خلص تقرير بحثي لمعهد الشرق الأوسط، وهو مؤسسة بحثية مستقلة مقرها واشنطن العاصمة، واطلع عليها موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إلى أن:
- إدارة ترامب في ولايتها الثانية قامت بإعطاء الأولوية للشرق الأوسط، ويعود ذلك جزئياً إلى أحداث مثل الصراع المدمر بين إسرائيل وحماس في غزة، لكنها ترى أيضاً إمكانية لتحقيق تقدم نحو اتفاق نووي مع إيران.
- لا يزال الشرق الأوسط ساحة رئيسية للتنافس الجيوسياسي، وقيام الرئيس ترامب بأول زيارة خارجية مُقررة له في ولايته الثانية إلى الشرق الأوسط يُرسل رسالة مفادها أنه يُعطي الأولوية للمنطقة.
- شملت الأشهر الأولى لترامب في منصبه مناورة لتحسين العلاقات مع روسيا وتكثيف المنافسة مع الصين، ولكن كلا البلدين لديهما نهجهما وعلاقاتهما الخاصة مع الشرق الأوسط، ويجب إدارة الارتباط بين المشهد الجيوسياسي الأوسع والديناميكيات في المنطقة بطريقة منسقة ومتماسكة.
- حتى الآن، انتهجت إدارة ترامب نهجاً في الشرق الأوسط من المرجح أن يمنعها من بناء أوسع تحالف إقليمي ممكن لمعالجة القضية الإسرائيلية الفلسطينية وإيران. يُهدد هذا النهج بإضعاف مكانة أميركا في المنطقة والعالم بدلًا من تعزيزها.
- كما أن النهج الأحادي الجانب، الذي لا يحقق أي مكاسب، يُهدد بتفويت فرص حثّ الشركاء الإقليميين على بذل جهودهم في جهود العمل الجماعي لمواجهة التحديات الإقليمية والعالمية.
علاقات متوازنة
الكاتبة الصحافية الصينية، سعاد ياي شين هوا، تقول لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن زيارة ترامب للخليج تحمل مكاسب اقتصادية واضحة، لكنها لن تغير واقع تراجع الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط ولا الاتجاه المتزايد نحو الاستقلال الاستراتيجي لدول الخليج، حيث تحتفظ دول المنطقة بعلاقات خارجية متوازنة.
وتشير في السياق ذاته إلى أن:
- اختيار ترامب مجددًا السعودية كنقطة انطلاق لجولاتها الخارجية، مما يبرز الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الخليج بالنسبة للولايات المتحدة.
- يعكس هذا الاختيار الطبيعة النفعية لسياسة “أميركا أولاً”، حيث تسعى واشنطن إلى جذب رؤوس الأموال الخليجية لتعويض تباطؤ الاقتصاد العالمي.
- يسعى ترامب من خلال هذه الزيارة إلى تعزيز الاستثمارات الخليجية في الشركات الأميركية، خاصة في قطاع التكنولوجيا المتقدمة، ما يُظهر للرأي العام الأميركي نتائج ملموسة لسياساته الاقتصادية.
لكنها تشير إلى أنه “رغم هذه المكاسب، يواجه ترامب صعوبة في تغيير الاتجاهات السياسية في المنطقة، حيث تتبنى دول الخليج نهجاً دبلوماسياً أكثر استقلالاً وتوازناً، وتتعاون مع قوى مثل الصين وروسيا إلى جانب الغرب (..)”.
لقاء ترامب والشرع.. كيف بدت لغة الجسد؟