المعادن النادرة.. سلاح صيني يهدد الاقتصاد العالمي
في خطوة تعكس تحوّلاً استراتيجياً في العقيدة الاقتصادية والسياسية لبكين، قررت الصين فرض قيود مشددة على تصدير المعادن النادرة اعتباراً من ديسمبر المقبل. القرار لا يقتصر على الجانب التجاري فحسب، بل يترجم انتقال الصين من مرحلة “الردع الصامت” إلى سياسة “فرض الإرادة”، التي تشكل عنوان العقيدة الجديدة للرئيس شي جين بينغ.
وتشمل القيود الصينية الجديدة منع توريد المعادن النادرة لأي دولة تستخدمها لأغراض عسكرية، وحظر نقل المعدات أو التكنولوجيا الخاصة بإنتاجها إلى الخارج. الأخطر أن بكين قررت أيضاً منع أي شركة حول العالم من بيع منتجاتها إذا كانت تحتوي – ولو بنسبة ضئيلة – على معادن نادرة صينية، من دون الحصول على موافقتها المسبقة.
بذلك، استخدمت الصين السلاح نفسه الذي لجأت إليه الولايات المتحدة سابقاً في ملف الرقائق الإلكترونية، لكن بأسلوب أكثر شمولاً يطال مختلف الصناعات الحيوية في الغرب.
بكين وواشنطن في مسار صدامي جديد
أرقام تكشف حجم النفوذ الصيني
الأرقام والإحصاءات الصادرة عن هيئة المسح الجيولوجي الأميركية تؤكد مدى السيطرة الصينية على مفاتيح المستقبل الصناعي العالمي. الصين تمتلك نحو 50 بالمئة من احتياطيات العالم من المعادن النادرة، أي ما يقارب 440 مليون طن، وتنتج 60 بالمئة من إجمالي الإنتاج العالمي، كما تؤمّن 70 بالمئة من احتياجات الولايات المتحدة. هذه الأرقام تعكس قوة التهديد المحتمل للصناعات الدفاعية والتكنولوجيا المتقدمة والطاقة المتجددة في الغرب، وتضع واشنطن أمام تحدٍ استراتيجي واضح على المدى القصير.
واشنطن بين التهديد والارتباك
الرد الأميركي على الخطوة الصينية جاء سريعاً على لسان الرئيس دونالد ترامب، الذي وصف الصين بأنها “دولة شريرة” و”أخذت العالم رهينة”، ملوّحاً بفرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 100 بالمئة على السلع الصينية. إلا أن بكين لم تُبدِ أي تراجع، بل أكدت استعدادها للرد بالمثل على أي خطوة عقابية من واشنطن. الرسائل الصينية كانت واضحة: لم تعد الصين تلعب دور المتحفظ أو الدفاعي، بل تصرّ على التصرف كقوة ندّية تعرف قيمة موقعها في الاقتصاد العالمي وتأثيره على الأسواق الدولية.
تحول استراتيجي في العقيدة الصينية
قال عمرو عبده، الشريك المؤسس لأكاديمية ماركت تريدر، خلال حديثه إلى برنامج “بزنس مع لبنى” على سكاي نيوز عربية، إن الصين منذ تولي الرئيس شي جين بينغ الرئاسة غيرت عقيدتها تجاه العالم بشكل جذري.
قبل شي، كانت السياسة الصينية تقوم على مبدأ “أخفِ قدراتك”، ما يعني عدم الظهور بشكل مهيمن في الأسواق العالمية. لكن بعد جائحة كورونا، وجدت الصين نفسها قادرة على عرض قدراتها بوضوح تحت شعار “أفرض إرادتك”، وهو ما انعكس على انتشار المنتجات الصينية من السيارات إلى الثقافة، وكذلك على السياسة الخارجية والدبلوماسية الاقتصادية.
وأضاف عبده أن هذا التحول يعني مواجهة أكثر صراحة وأقل صبراً، مع تباهٍ بالقدرات والبراندات الصينية، وهو ما يضع الغرب أمام تحدٍ جديد على الصعيد الاستراتيجي.
قيود المعادن النادرة وتأثيرها على الأسواق
وفق عبده، فإن الصين استعدت لعقود لهذه اللحظة، حيث فرضت قيوداً على 12 نوعاً من المعادن النادرة، مستحوذة على 60 بالمئة من الإنتاج و80–90 بالمئة من عمليات المعالجة. هذا يجعل البحث عن بدائل أمراً صعباً، خصوصاً مع أهمية هذه المعادن في الصناعات الدفاعية والتحول الطاقي والتكنولوجيا العسكرية الأميركية.
وأضاف عبده أن القيود قد تسهم في “تحجيم بعض القطاعات” لكنها في الوقت نفسه تعزز دور الصين كمصدر لا غنى عنه، وتعيد رسم خرائط الاعتماد الصناعي العالمي.
عمرو عبده: ثقة المستثمرين بأميركا تتراجع… والذهب يربح
الأسهم والملاذات الآمنة في زمن عدم اليقين
يشير عبده إلى أن حالة الأسواق المالية الأميركية تعكس “عدم يقين استثنائي”، حيث تحولت الأسهم إلى الملاذ الآمن بدلاً من السندات، ما أدى إلى ضخ سيولة ضخمة في السوق، مع توقع أرباح قياسية للبنوك الكبرى مثل جي بي مورغان التي تتوقع 50 مليار دولار من عمولاتها هذا العام.
وأضاف أن خروج السيولة من السندات الأميركية نحو الذهب والفضة والبنوك المركزية يعكس تغيّر موازين الثقة، ما يرفع الذهب إلى مستويات قياسية متوقعاً وصوله إلى 4500 دولار للأونصة خلال الفترة القادمة.
النحاس والطلب الاستراتيجي
بالنسبة للنحاس، يشير عبده إلى أنه “الدكتور كوبر” للأسواق، حيث يمثل مؤشراً حيوياً لحالة الاقتصاد العالمي. الطلب الحالي على النحاس مرتفع رغم تباطؤ الاقتصاد، مدفوعاً بعجز محتمل في المعروض حتى 2035، والطلب المتزايد من قطاعات الكهرباء والذكاء الاصطناعي، إضافة إلى الإنفاق العسكري الأوروبي المتنامي الذي يستخدم كميات ضخمة من النحاس في المعدات الدفاعية.
المعادن والطاقة المستقبلية
وأكد عبده أن الأصول المرتبطة بإنتاج وتوزيع الكهرباء، بما في ذلك شركات الطاقة المتجددة والنووية، ستكون الرابح الأكبر خلال الفترة القادمة، مع ارتفاع الطلب على المعادن الأساسية التي تدخل في إنتاج الكهرباء والتقنيات المستقبلية.
وأضاف أن موجة ارتفاعات المعادن الأساسية والذهب والنحاس قد تمتد لسنوات مقبلة، نتيجة تزامن الطلب من قطاعات متعددة مع تراجع المعروض، ما يضع المستثمرين أمام فرص تاريخية وربما تحولات جيوسياسية واقتصادية غير مسبوقة.
قرار الصين بفرض قيود على المعادن النادرة ليس مجرد تحرك اقتصادي، بل هو رسالة استراتيجية تعكس التحول الجذري في العقيدة الصينية نحو المواجهة وإظهار القوة. الأسواق العالمية الآن أمام مرحلة من عدم اليقين، حيث تتحول الأسهم والذهب والنحاس إلى مراجع حيوية للمستثمرين، بينما يُعاد تعريف موازين القوة في الصناعات الدفاعية والتكنولوجية والطاقة المتجددة على مستوى العالم.
الصين تصعد المواجهة مع أميركا وترامب يهدد برد مؤلم